علوم القرآن عند الشاطبی

اشارة

علوم القرآن عند الشاطبی من خلال كتابة الموافقات
a'loum alkra'n a'nd alshatbi mn khlal ktabah almwafkat
تألیف: محمد سالم أبو عاصی تاریخ النشر: 01/01/2005
الناشر: دار البصائر للطباعة والنشر والتوزیع
النوع: ورقی غلاف عادی، حجم: 24×17، عدد الصفحات: 176 صفحة الطبعة: 1 مجلدات: 1
نام كتاب: علوم القرآن عند الشاطبی
نویسنده: محمد سالم ابو عاصی
موضوع: علوم قرآنی
تاریخ وفات مؤلف: معاصر
زبان: عربی
تعداد جلد: 1
ناشر: دارالبصائر
مكان چاپ: القاهرة
سال چاپ: 1426 / 2005
نوبت چاپ: اوّل‌

شیخنا الأستاذ الدكتور محمد سالم أبو عاصی‌

بسم اللّه الرّحمن الرّحیم
الحمد للّه و الصلاة و السلام علی سیدنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم و بعد:
فالأستاذ الدكتور محمد سالم- حفظه اللّه تعالی- شخصیة علمیة بارزة، و واحد من أبناء الأزهر الشریف، الذین حفظوا للأزهر مكانته، و للعلم حرمته، و للتراث العربی و الإسلامی عزته و رفعته، و هذه سطور قلیلة نتعرف من خلالها علی جوانب مختلفة تقربنا من تلك الشخصیة.
فقد ولد الأستاذ الدكتور محمد سالم أبو عاصی فی العشرین من مارس سنة 1962 م.
و التحق فی أول الأمر بالمدارس الابتدائیة ثم الإعدادیة العامة التابعة لوزارة التربیة و التعلیم، و فی تلك المرحلة المبكرة من حیاته بدأ یخطو أولی خطواته نحو رحلته العامرة فی طلب العلم، فقد تعرف إلی رجل دانت له الأوساط الإسلامیة الخاصة و العامة بكثیر من الفضل و الجهد، ذلك هو الداعیة الإسلامی الشیخ" عبد الحمید كشك"، فقد تعرف إلیه و انجذب إلی أسلوبه البلیغ، و فصاحته القویة، و عربیته القحة، فاقترب منه، و نشأت بینهما من أواصر الودّ و المحبة ما جعل الشیخ یأنس إلیه و یقربه منه؛ فقرأ علیه فی تلك المرحلة بعض كتب ابن هشام كقطر الندی و غیره.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 6
ثم انشرح صدره أن یلتحق بالأزهر الشریف؛ حتی یسیر علی الدرب و ینسج علی المنوال، فالتحق بالثانویة الأزهریة بالقسم العلمی، و لم یكن یكتفی ذلك الطالب النهم بما یلقی علیه فی قاعات الدرس بالمعاهد الأزهریة، فسعی إلی العلماء فی بیوتهم و مساجدهم ینهل من معارفهم، و یرتشف من علومهم ... لكنه لا یرتوی.
ثم التحق- حفظه اللّه- بكلیة أصول الدین، فتعرف إلی علمائها، و تقرب من أفذاذها، نذكر منهم علی وجه الخصوص عالمین جلیلین:
الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم القیعی- رحمه اللّه- أستاذ و رئیس قسم التفسیر بأصول الدین، الذی قربه منه، و أنزله منه منزلة الولد من الوالد، فأفاد منه فوائد عظیمة و حصّل منه علما جمّا، و قد أشرف الدكتور القیعی علی الرسالة التی أعدها الدكتور محمد سالم لنیل درجة الماجستیر و كان موضوعها:" تفسیر آیات الشرط فی القرآن الكریم"؛ و نظرا للمحبة العظیمة و الرابطة القویة التی كانت تجمع بین الطالب و أستاذه، بل بین الولد و والده، بكی الشیخ القیعی بكاء الفرح الممزوج بدموع الوداع بعد هذه المناقشة؛ فقد انتقل رحمة اللّه علیه، بعدها بأیام إلی مثواه الأخیر، تاركا ولده یكمل رحلته فی رعایة ربه أرحم الراحمین.
و ثانی الأستاذین هو الأستاذ الدكتور إبراهیم عبد الرحمن خلیفة- حفظه اللّه تعالی- الذی كان و لا یزال، یحتفظ بأوثق الصلة و أشد المحبة، بتلمیذه و ولده الدكتور محمد سالم، فقد أشرف علی رسالته للدكتوراة، و كان عنوانها:" التعلیل فی القرآن الكریم دراسة و تفسیرا"، و هنا یجدر بی أن
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 7
أسوق كلمة معبرة عن وفاء الطالب لشیخه، و فناء الشیخ فی علمه و رسالته و طلابه، یقول الدكتور محمد سالم فی مقدمة الرسالة عن أستاذه الدكتور إبراهیم خلیفة:" و بالجملة فهو جامع للمنقول و المعقول علی حد سواء، و قد قرأ الأستاذ الدكتور معی هذا البحث حرفا بحرف، و صحح و حقق معی كثیرا من مسائله دون ملل و لا فتور، بل الحق یقال، إنه فتح لی قلبه الرحیم، و بیته الكریم، و مكتبته العامرة، لیل نهار للاستفادة فی هذا البحث و غیره ...".
و بعد هذا نقول لمن یمنحون الشهادات جزافا، و الدرجات العلمیة مجاملة و اعتباطا: أین حمرة الخجل؟
نعود لصاحب هذه الترجمة فنقول: كما عرفته المعاهد الأزهریة، نهما شغوفا، محبّا مرتشفا لكأس العلم دائم الشرب لكنه لا یرتوی، كذلك عرفته كلیات جامعة الأزهر الشریف، طالب علم جاد لا یكتفی بما یلقی علیه فی قاعات المحاضرات بأصول الدین، فتقرب إلی علماء كلیة الشریعة و اللغة العربیة؛ فمن أساتذة الشریعة العلامة الدكتور الفقیه الأصولی أحمد فهمی أبو سنة، و العلامة الدكتور الأصولی خاتمة المحققین الدكتور عبد الجلیل القرنشاوی، و الأستاذ الدكتور الفقیه الشافعی العلامة جاد الرب رمضان، و العلامة الدكتور الأصولی الحسینی الشیخ، و العلامة الدكتور عبد العال عطوة، و الأستاذ الدكتور الشیخ أبو النور زهیر، و غیرهم، و تقدیرا له و لقوة تحصیله وسعة اطلاعه كتب له
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 8
الدكتور أحمد فهمی أبو سنة فی إجازته إیاه: عرفت فیه حبه للعلم و إقباله علیه، و جودة فهمه، وسعة اطلاعه، و حسن استنباطه مما یقرأ .. قد بلغ درجه فی العلم، جعلتنی أوصی به المجامع العلمیة خیرا، و اللّه یوفقه و ینفع به"
و كتب الشیخ القرنشاوی فی إجازته:" درس معی بعض المراجع الأصلیة لهذه المادة- أصول الفقه- و كان حریصا علی الفهم و التحلیل، و بعد مضی هذه المدة- أربع سنوات- وجدته قد نضج فی هذه المادة؛ ملكه و تحصیلا، و قدرة علی استخلاص المعلومات من مراجعها الأصلیة و صناعتها بأسلوب علمی؛ مما جعلنی أثق بقدرته العلمیة، و رغبة منی فی الانتفاع بعلمه قد أجزته فی تدریسها، و نسأل اللّه تعالی أن یوفقه و ینفع بعلمه".
و من شیوخه فی كلیة اللغة العربیة: الأستاذ الدكتور إبراهیم علی أبو الخشب، و یوسف الضبع، و أحمد حسن كحیل.
و بعد؛ فالذی ذكرناه من السادة العلماء الأفاضل، هم بعض من درس علیهم أستاذنا الجلیل، و إلا فذكرهم علی التفصیل أمر یطول، لكننی علی أكمل الیقین و أتم الثقة أنه كان محظوظا بتلك الكوكبة النادرة العالیة من أجلة العلماء، و كانوا هم أیضا محظوظین بذلك الطالب الوفی النابه.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 9
أما عن جهوده العلمیة و الدعویة: فقد كان العلم له رسالة و قضیة، و ما أصعبها من رسالة و ما أشقها من قضیة، فی وقت سادت فیه عملة الزیف، و كثر فیه الأدعیاء، و لم یفرق الناس- بل كثیر ممن یطلبون العلم- بین عالم و مدع.
و نستطیع أن نجمل هذه الجهود فی السطور التالیة:- التدریس بكلیة أصول الدین بالقاهرة لعلم التفسیر و علوم القرآن الكریم.
- التدریس بكلیة الآداب جامعة الإسكندریة.
- التدریس بالجامعة الأمریكیة بالقاهرة.
- التدریس بالمعهد العالی للدراسات الصوفیة التابع للعشیرة المحمدیة.
- العمل أستاذا و رئیسا لقسم أصول الدین بكلیة الشریعة و القانون بسلطنة عمان الفترة (1997- 2003 م).
- هذا إلی جانب المشاركة بالمؤتمرات العلمیة، و الندوات العامة، و البرامج التلفزیونیة، و المقالات الهادفة بالجرائد و المجلات السیارة.
- مشاركته الفعالة بمشروع" إحیاء الأزهر القدیم" بالرواق العباسی بالجامع الأزهر الشریف.
- عضویة مجمع اللغة العربیة بالقاهرة.
- المشاركة بموسوعة الفرق الإسلامیة- إشراف الدكتور حسن الشافعی- بالمجلس الأعلی للشئون الإسلامیة.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 10
و بعد فهذه السطور المتواضعة تحاول أن تقرب شخصیة هذا العالم من قلوب أحبابه و تلامیذه، و أحسب أن لها شرف المحاولة فقط، و إلا فقد سبق علمه كلماتی، و سبقت سجایاه ترجمتی، و سبقت محبته فی قلوب عارفیه سطوری، فما هی إلا كلمات تعبر عن محبتی و وفائی له، و الوفاء أمر غال عزیز.
و اللّه سبحانه الموفق و المستعان
و كتب المفتقر إلی عفو ربه أشرف سعد محمود
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 11

مقدمة

الحمد للّه .. أقولها بمل‌ء فمی و قلبی. لقد ألهمنی اللّه سبحانه و تعالی الحق، و بصرنی منهاج الدلالة علیه، و حملنی شرف الدفاع عن دینه و شریعته و قرآنه، و ما كنت أهلا لشی‌ء من ذلك كله ... لو لا سابغ لطفه، و عظیم امتنانه ... فمنه و له و إلیه الفضل كله.
و الصلاة و السلام الأتمان و الأكملان علی سیدنا محمد صلی اللّه علیه و سلم.
و بعد ..
فإن الناظر فی تراث علمائنا الأعلام، خصوصا أهل التفسیر و القرآن، یتبین أنهم- رحمهم اللّه- لم یقفوا عند كلام یحللونه و یستخرجون معانیه و أحكامه، كما وقفوا عند القرآن الكریم: یدرسونه علی جمیع وجوهه من نحو و بلاغة و فقه .. یخبرون ظاهره و باطنه، و یسبرون غوره، و یتغلغلون فی أعماقه. و ذلك كله؛ لئلا یفوتهم معنی أو حكم من أحكام اللّه فی قرآنه دون أن یستخرجوه.
و كذلك .. لئلا یستخرجوا من كلام اللّه غیر مراده سبحانه؛ إذ فی الأول نقص یلحق أحكام اللّه، و فی الثانی دخول ما لیس من أحكام اللّه فی مراده.
و من ثم ... أحكم علماء القرآن وسائلهم اللغویة و الفقهیة .. دققوا و حققوا ما فی وسعهم من أصول الاستنباط، و سبل الاجتهاد، فی تفسیر القرآن الكریم، و من ثم نشأ ما یسمی ب" علوم القرآن" و" أصول التفسیر"، التی هی بمثابة أصول الفقه من الفقه. فكما أن الفقیه یستنبط من النص مستعینا بأصول الفقه، فكذلك المفسّر یستنبط من النص مستعینا بأصول التفسیر كی یقطف المعنی من اللفظ.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 12
و فی هذا البحث حاولت أن أكشف شیئا من علوم القرآن و أصول التفسیر عند الإمام الشاطبی فی كتابه" الموافقات"، و حاولت كذلك- و أنا طالب علم- أن ألفت نظر زملائی من طلاب العلم كیف كان علماؤنا الأوائل یعملون عقولهم، و كیف كانوا یفكرون و هم یستنبطون و یستخرجون مراد اللّه من قرآنه.
یقول أستاذنا الجلیل الدكتور محمد محمد أبو موسی:" لیس فی باب العلم أنفع و لا أفضل من أن نتعلم كیف استنبط العلماء العلم؛ لأن الاستنباط هو الذی یهدیك إلی استخراج معرفة جدیدة و فكر جدید، و هو الذی هدی كل جیل إلی تجدید علومه و بسط معارفه" «1».
و بعد .. فإن الغایة التی یسعی إلیها هذا الكتاب إنما هی التنبیه إلی قیمة قواعد علوم القرآن و أصول التفسیر فی دراسة كتاب اللّه، ثم التمسك بهذا النهج، و الدعوة إلیه علی أنه هو- لا غیره- النهج الأقوم فی فهم القرآن؛ لأنه المیزان الذی یمیز الرشد من الغی، و هو الذی ینیر السبیل و یوضح صدق المتمسكین بالقرآن و السنة، كما أنه هو الذی یكشف روغان الكاذبین و المخادعین و المضللین ممن یرفعون رایة" القراءة المعاصرة"، تلك القراءة التی تحرف القرآن عن مواضعه- أو من بعد مواضعه- متخذین من الآراء الشاذة و الضالة قدیما و حدیثا هادیا لهم.
ثم رأینا من هؤلاء من یحاول أن یطبق المناهج الأعجمیة- من" الألسنیة" و غیرها- فی نقد النصوص الأدبیة علی القرآن و علومه .. فرأینا من ینادی
______________________________
(1) المدخل إلی كتابی عبد القاهر، مكتبة وهبة، ط 1/ 1998 م، ص 5.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 13
بدراسة القرآن دراسة أدبیة فقط، و أن هذا الدرس الأدبی لا بدّ و أن یقوم أولا علی نزع الإیمان بقدسیة هذا النص.
إن إسقاطات هذه" القراءة المعاصرة" تتغیّا إسقاط الفرق بین كلام اللّه الذی یتعالی علی الزمان و المكان، و بین كلام البشر الذی لا یستطیع الفكاك من دائرتی الزمان و المكان. و هذا ینتهی بهم- لو عقلوا و أنصفوا- إلی إلغاء الفرق بین الخالق و المخلوق. و المحصّلة عند هؤلاء تتجلی فی أمور جد خطیرة:
1- إسقاط قدسیة النص القرآنی، و ذلك عن طریق قطعه عن مصدره.
2- إسقاط إلزامیة القرآن الكریم بالنسبة للمسلمین، و ذلك من خلال فتح باب التأویل علی مصراعیه من غیر ضوابطه العلمیة المقررة.
3- القطیعة المعرفیة مع التراث و ذلك عن طریق رفضه كله (" الحداثة" المبتورة عن الجذور).
إن العاصم من هذا الزلل أن نعود إلی أصول اللغة العربیة و القواعد الأصولیة، فنتخذ منهما أداة نتوسل بها إلی فهم سدید لكتاب اللّه تعالی، و إلی استنباط صحیح منه. فاللغة العربیة هی مفتاح القرآن، و قد أصاب دهاقنة الاستعمار المقتل فینا حین وجهوا سهامهم نحوها منذ قدیم.
إن تفسیر القرآن الكریم دون التقید بأصول لغة العرب كذب و تقوّل علی اللّه، و هو كذلك خطیئة منهجیة لا تغتفر .. لا فی منطق الشریعة و لا فی شرعة العلم. و كذلك تفسیره من غیر معرفة الدلالات الشرعیة .. تحریف لمراد اللّه تعالی فی بیان أحكامه.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 14
و من ثم بنیت بحوث هذا الكتاب علی أصلین:
أولهما: ما یعوّل علیه من اللغة فی علوم القرآن.
و ثانیهما: ما یعوّل علیه من الشرع فی علوم القرآن.
و نهجی فی هذا الكتاب أن أبدأ بذكر ما قاله الشاطبی ثم أوضحه إن احتاج الأمر إلی توضیح، و أعقب علیه إن اقتضی الأمر تعقیبا، ثم أقارن أحیانا بین ما یقوله- رحمه اللّه- و بین ما یقوله غیره من علماء القرآن و الأصول، فیظهر فی نهایة المطاف قیمة ما یقوله الإمام الشاطبی عن القرآن و علومه فی كتابه" الموافقات".
و حسبی أننی ألج هذا الباب و أسلك هذا الطریق دون ریادة سابقة فیما أعلم أتهدّی بها فی موضوع دقیق كموضوع هذا الكتاب، و لعلی بهذا أستثیر الدافع عند آخرین لیسلكوا ما عسای أكون قد بدأت به.
و المحصّلة الأخیرة التی خرجت بها من قراءة هذا الكتاب هی أن الشاطبی كان یتعبد فی محراب" كیف تكشف الغمّة عن هذه الأمة". و لذلك حاول أن یرجع بفهم القرآن الكریم و تفسیره إلی ما كان علیه الأوائل من بیان هدی اللّه فی قرآنه، و اقتطاف أحكامه، و بیان أن هذا القرآن هو معجزة الإسلام و أن كل مفسّر مهما حاول فإنما یأخذ نقرة بمنقار طائر فی بحر محیط. و اعتقاد مفسری القرآن كان و لا یزال، و سوف یستمر، أن ما أدركوه من معناه هو شی‌ء ظنی، و أن ما أدركوه من إعجازه هو شی‌ء نسبی، إذا قیس بما علیه حقیقة أمر القرآن الذی لا یخلق علی كثرة الرد و لا تنقضی عجائبه.
...
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 15
و ختاما ...
إن فی تاریخ هذه الأمة رجالا صنعهم اللّه علی عینه فكانوا حماة لهذا الدین، و نحن بحاجة إلی أمثالهم یرابطون علی الثغور فی هذا الزمان الذی یحاول أعداء الإسلام كل یوم فتح ثغرة فی جدران حماه.
و أحسب أن الشاطبی كان علما من أعلام هؤلاء ... فجزاه اللّه خیر الجزاء علی ما أسدی فی خدمة كتاب اللّه خاصة و شریعة اللّه عامة، كما أسأله سبحانه أن یجزی شیوخنا الأجلاء الذین جلسنا بین أیدیهم و تعلمنا منهم خیر الجزاء؛ إذ هذا البحث ما هو إلا ثمرة من ثمار غرسهم، و نستطیع أن نقول لهم بمل‌ء أفواهنا:
هذه بضاعتكم ردت إلیكم.
و الصلاة و السلام علی نبینا محمد الفاتح لما أغلق و الخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، و الهادی إلی صراط اللّه المستقیم.
د. محمد سالم أبو عاصی
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 16

ترجمة أبی إسحاق الشاطبی‌

تمهید:

اشارة

عرف بعضهم أصول الفقه بأنه العلم بالعناصر المشتركة فی عملیة استنباط الحكم الشرعی «1».
و عملیة استنباط أحكام الشریعة من أدلتها لها ركنان:
أحدهما: علم لسان العرب.
و ثانیهما: علم أسرار الشریعة.
و قد خصّ الركن الأول بالدراسة المتعمقة التی لملمت له الشعث، و أدرج فیه ما تمس إلیه حاجة الاستنباط، و أضیف إلیه ما یخدمه و ما یقوم علیه من بحوث أخری فیما یتعلق بتصور الأحكام.
و أما الركن الثانی فقد أغفل إغفالا ..." و هكذا بقی علم الأصول فاقدا قسما عظیما، هو شطر العلم الباحث عن أحد ركنیه، حتی هیأ اللّه- سبحانه و تعالی- أبا إسحاق الشاطبی فی القرن الثامن الهجری لتدارك هذا النقص، و إنشاء هذه العمارة الكبری، فی هذا الفراغ المترامی الأطراف، فی نواحی هذا العلم الجلیل" «2».
فمن هو هذا العلم الفخم الذی صنع هذا الصنیع، و أسدی هذه المفخرة؟
______________________________
(1) محمد باقر الصدر، المعالم الجدیدة للأصول، ص 8، ط. دار التعارف، لبنان.
(2) عبد اللّه دراز، من مقدمة الموافقات، 1/ 50.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 17
من هو أبو إسحاق الشاطبی هذا؟

1- أولا: اسمه و نسبه:

هو إبراهیم بن موسی بن محمد اللخمی، و كنیته أبو إسحاق، و لقب شهرته الشاطبی. فأما اللخمی؛ فهو نسب عائلته، أی قبیلته، و لا یعلم فی نسبه القریب مبرّز فی العلم، غیر أن حسب أبی إسحاق أن یكون علمه نسبه، متمثلا بقول أبی الطیب:
لا بقومی شرفت بل شرفوا(و بعلمی) فخرت لا بجدودی «1» علی أنه لا ضعة علی الرجل فی نسبه. فهو لخمیّ عربی، و كان للخمیین ملك بالحیرة، كان آخرهم المنذر بن النعمان بن المنذر، ثم كان لبقایاهم ملك بإشبیلیة من الأندلس و هی دولة ابن عباد.
و أما الشاطبی؛ فهی نسبة إلی" شاطبة" الواقعة شرق الأندلس بمقاطعة بلنسیة، و قد عرفت بصنع الورق، و كانت من أعظم حصون المسلمین بالأندلس، و نسبة أبی إسحاق إلی شاطبة، من جهة كونها موطن آبائه، الذین تركوها إلی غرناطة حین سقوطها بید ملك أراقون، الذی حاربها تسع سنین من غزوه لها عام 1239 م، ثم أخرج من شاطبة أهلها من المسلمین.

2- مكان و زمان ولادته:

أ- زمان ولادته: لا یوجد تاریخ مجزوم به یحدّد ولادة أبی إسحاق، غیر أن بعضهم اجتهد فی استنباط تاریخ مقارب، فجعلها قبل عام 720 ه، و سنده فی
______________________________
(1) أصل البیت: و بنفسی فخرت لا بجدودی، و عدلنا به للمناسبة.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 18
ذلك أن وفاة أسبق شیوخ الشاطبی و هو أحمد بن الزیات كانت 728 ه، و لا بدّ أن یكون الشاطبی حینها یافعا.
و لكن باحثا آخر نفی كون ابن الزیات شیخا للشاطبی. و رجح أن مولد الشاطبی كان قریبا من سنة 730 ه و استند فی ذلك إلی براهین هی:
- أن أبا إسحاق كان صدیقا ندّا لابن زمرك الوزیر المولود عام 733 ه.
- أن الشاطبی ذكر أنه كان سنة 756 ه تلمیذا صغیرا لابن الفخار البیری.
و لعل هذا التوجیه هو الأدق للبرهان الثانی خصوصا إذا علم أن الشاطبی كان یدرس علی ابن الفخار ألفیة ابن مالك و كتاب سیبویه .. فانظره، و اللّه أعلم بصوابه.
ب- مكان ولادته: لم یذكر علی وجه التحدید كزمانها، لكن إذا علمنا أولا أن أهل الشاطبی تركوا شاطبة إلی غرناطة عام 1247 م- فی الحادثة التی أشرنا إلیها- علی أبعد التقدیرات؛ فإن ذلك یكون قبل ولادة الشاطبی بنیف و سبعین سنة. و یعلم ثانیا أن الشاطبی نشأ و ترعرع بغرناطة، فیترجح أن میلاده- و هو إلی نشأته أقرب- إنما كان فی غرناطة.

3- نشأته:

نشأ الشاطبی بغرناطة التی أمضی بها سائر عمره، و كان قد اتجه منذ صباه الباكر إلی العلم كما تری من ملازمته أعلاما كبارا فی زمنه كابن الفخار البیری الذی كان یتلقی عنه و هو فی العشرینیات تقریبا، و كأبی سعید بن لب فی ذات الفترة، و غیرهم من الأعلام.
و ما تمكنه عند جمعهم إلا لطول الملازمة، و بیان ذكائه، و ظهور نبوغه، أ لا تری كیف كان ابن الفخار یعجب من ذكائه و إثارته مسائل فی اللغة، لا یتنبه
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 19
إلیها من هو فی مثل سنه؟! فما بالك بمن عجب منه ابن الفخار و هو الإمام فی علوم العربیة الذی لا مطمح بغیره فی اللحاق به؟!
و قد كان الشاطبی متمیزا بقوة العارضة و النبوغ، و قد خرجت خوارجه منذ أول توجهه كما یقول عن نفسه:" لم أزل منذ فتق للفهم عقلی، و وجه شطر العلم طلبی أنظر فی عقلیاته و شرعیاته و أصوله و فروعه، لم أقتصر منه علی علم دون علم، و لا أفردت من أنواعه نوعا دون آخر".

4- أخلاقه:

یوصف الشاطبی فی مجمل سجایاه أنه كان یغلب علیه الزهد و الورع و التمسك بالكتاب و السنة، و النفور من البدع و أهلها، كما كان متواضعا یكره التعالم و التعنت و الاعتراض و الجدل.

5- وفاته:

من المتفق علیه أن وفاة الإمام أبی إسحاق كانت سنة 790 ه الموافقة 1388 م. استنادا علی ما قاله أحد تلامذته الذی نظم كتاب الموافقات إذ قال:
حتی غدت حیاته منقضیةفی عام تسعین و سبعمائة و دقق بعض الباحثین تاریخ وفاته بأنه یوم الثلاثاء، الثامن من شعبان، سنة 790 ه، الموافقة 1388 م.
فإن كان الاختیار أن ولادته كانت فی الثلاثینیات من القرن الثامن كما مر، فیكون قد عاش نحوا من ستین سنة «1».
______________________________
(1) حماد العبیدی، الشاطبی و مقاصد الشریعة، ص 13، 14. و انظر: مجلة الموافقات، العدد الأول ص: 95.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 20

6- عصره و بیئته:

عاش الإمام أبو إسحاق الشاطبی فی غرناطة من أرض الأندلس، و لم یذكر أنه فارقها حتی للحج، بله طلب العلم.
و كان القرن الذی عاش فیه هو الثامن الهجری بین ثلاثینیاته و تسعینیاته.
فما بیئة غرناطة و وقتذاك؟ و ما أحوالها المعاصرة لحیاة الإمام أبی إسحاق؟
بیئة إقامة الشاطبی غرناطة، التی كانت فی بدایة عهد المسلمین فی الأندلس واقعة ضمن إقلیم البیرة التی صرف إلیها عبد الرحمن الداخل الأموی جل اهتمامه، ثم حین سقطت الدولة الأمویة فی الأندلس و أحرقت البیرة انعكس الأمر و خرج أهلها منها و جعلوا قبلة فرارهم و هجرتهم إلی غرناطة، و أصبحت هی عاصمة الإقلیم، بینما غدت البیرة تابعة لها، و اتخذها المرابطون قاعدة لهم بعد أن افتكّوها من بربر صنهاجة- كما یذكر- ثم دالت الدولة فأخذها منهم الموحّدون، ثم استولی علیها ابن هود أحد ملوك الطوائف، إلی أن نزعها منه مؤسس الدولة النصریة دولة بنی الأحمر، عام 635 ه، و ظل بنو الأحمر یحكمون غرناطة قرابة قرنین و نصف من الزمان، و فی أوج دولتهم هذه عاش الإمام أبو إسحاق الشاطبی، و عاصر من ملوكها مزیجا .. منهم القوی الحكیم، و منهم الضعیف غیر المجرّب فتستقر الأحوال حینا فیعمل الناس و ینتجون، و تضطرب أحیانا متجهة إلی الحركة، أو تضعف. و قد یخرج منها البعض مهاجرا.
كانت ولادة الشاطبی فی هذا العهد، و علی الذی اخترناه من تاریخ ولادته، یكون ذلك مترددا بین عهد اثنین من ملوك بنی الأحمر هما محمد بن إسماعیل
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 21
(تولی 725 ه، و قتل 733 ه)، و أخوه أبو الحجاج یوسف بن إسماعیل (تولی 733 ه، و قتل 755 ه)، و كان أبو الحجاج مهتمّا بالعلم و الأدب، و قد استوزر ذا الوزارتین لسان الدین ابن الخطیب، و علی عهده كان فی غرناطة علماء كبار منهم ابن الفخار البیری شیخ الشاطبی، ففی عهد أبی الحجاج یكون الشاطبی یشق طریق تكوینه العلمی علی ید أعلام قرطبة.
ثم ولی بعد أبی الحجاج ولده الغنی باللّه محمد بن یوسف بن إسماعیل (ولی 755 ه، و مات 793 ه)، أی أن حكمه استمر إلی ما بعد وفاة الشاطبی، و كانت فترة طویلة تمیزت بأمن و استقرار نوعا ما، تخللها ذلك الاضطراب الذی خرج فیه الغنی باللّه إلی المغرب، و تولی مكانه أخوه إسماعیل، ثم قتله زوج أخته" البرمیخو" و تولی مكانه، و كان" البرمیخو" فاسدا.
و لما كانت الرعایا علی دین الملوك فقد انتقل هذا الفساد إلی الحیاة الیومیة، لا سیما انتشار الحشیشة و استحلالها كما كان یصنع البرمیخو، و فی هذه السنوات الثلاث لجأ معظم الفقهاء إلی بلاط بنی مرین بفاس. كما ساعد فی نقل الفساد إلی الحیاة الیومیة كون غرناطة قبلة كل شارد فأصبحت ملتقی للانحرافات الدینیة و الخلقیة فی سائر الحیاة العامة- كما یعبر البعض- و هكذا ما كان یجری فی سرادیب السیاسة بین الطبقات الحاكمة من كلب شدید قائم علی السلطة.
و حسبك أن تعلم من ذلك أن ابنی إسماعیل اللذین ذكرناهما و أباهما أبا الید إسماعیل، كل هؤلاء قتل فی سبیل السیطرة، و ما حدث للغنی باللّه كان وراءه أخوه إسماعیل و هلك إسماعیل علی ید البرمیخو. و ما دون الأمراء كان كذلك حال الوزراء كالفتنة التی وقعت للسان الدین ابن الخطیب، و ضاعفها أن كان وراءها تلمیذه ابن زمرك الذی أرضعه ابن الخطیب الأدب و انتهت بقتل ابن الخطیب عام 776 ه،
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 22
و دارت الأیام علی ابن زمرك فقتل هو الآخر عام 797 ه، و كان ابن زمرك صدیقا ندّا للشاطبی، كما سبق ذكره.
هكذا كانت بیئة غرناطة و عصر الشاطبی، فعلی ما فیها من ازدهار فی العلوم و الآداب بحیث كان ذلك الوقت عصرا لكبار الفقهاء كابن عرفة، و ابن مرزوق الجد، و العقبانی، و الأدباء كلسان الدین ابن الخطیب، و ابن خلدون ...
و غیرهم ممن عرفت .. علی هذا الازدهار كان ما رأیت من سریان الداء إلی جسد الحیاة الیومیة، و ما سمعت من تهتك أدیم نظام السلطة و الكلب علی الحكم.
و علی كل ذلك لم یكن هناك صدی فیما كتبه الشاطبی لهذه الأحوال، و لیس له تجاهه موقف فصیح، غیر أنه یمكن رد ذلك إلی أنه كان یكتفی بموقفه الفكری الممیز الذی یردّ فیه كل أسباب الفساد الخلقی و الاضطراب الاجتماعی إلی البعد عن النهج السویّ و السنة السمحاء، و إیثار البدعة و ارتضائها، و هذا میدانه الذی بقی فیه سیفه مصلتا و تحمل فی سبیل غایته كل عنت و مشقة.
و لعل سائلا یسأل لم لم یترك الشاطبی غرناطة و الأندلس إلی غیرها؟
و نقول: لو فعل؛ لكان كالمستجیر من الرمضاء بالنار ففی تلك المرحلة العصیبة لم تكن أرض للمسلمین إلا و هی تنعی صحة الإسلام إلی أهله الغیورین، فبنو مرین فی فاس تتراجع دولتهم بعد وفاة أبی الحسن المرینی 752 ه، و مصر فیها الأحوال مضطربة فی دولة الممالیك البحریة ثم الجركسیة و هم یواجهون خطر التتار من جهة
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 23
و الصلیبیین من جهة. فإن فر من نار المغرب؛ وقع فی جحیم المشرق، و قد فعل ذلك ابن خلدون فما ظهر إلا بالعناء و العنت «1».

شیوخ الشاطبی «2»:

1- أبو عبد اللّه محمد ابن الفخار البیری: و قد مر ذكره، و كان الشاطبی شدید القرب منه، و قد درس علیه كتاب سیبویه و ألفیة ابن مالك، و كان شیخا له فی القراءات.
توفی ابن الفخار عام 756 ه- أو بعدها بقلیل، و قد درس علیه الشاطبی فی شبابه و كان به معجبا.
2- أبو سعید فرج بن قاسم بن أحمد بن لب الغرناطی (710- 782): كان فقیه غرناطة و خطیبا بجامعها الكبیر، و مدرسا بمدرستها النصریة. و كان ثالث ثلاثة ذاع صیتهم بالمغرب، و الآخران هما المقری و ابن مرزوق و كلاهما من شیوخ الشاطبی.
كان الشاطبی أثیرا قریبا من ابن لب، و قد درس علیه الفقه و الفروع و شیئا من اللغة، و لكن نفرة قامت بینهما حین استقل الشاطبی بالفتوی، فبدا له
______________________________
(1) فی حال عصر الشاطبی .. انظر:
- أحمد الریسونی، نظریة المقاصد عند الشاطبی، خلاصة ترجمة الشاطبی، ص 88.
- حماد العبیدی، الشاطبی و مقاصد الشریعة.
- مجلة الموافقات، ملف العدد الأول.
(2) انظر: الشاطبی و مقاصد الشریعة، لحمادی العبیدی، و مقاصد الشریعة عند الشاطبی، للریسونی.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 24
تساهل ابن لب، فی حین كان الشاطبی شدیدا فی فتاواه توافقا مع نهجه فی معاكسة الأهواء، و دفع البدع، و حفظ دوحة الدین.
3- أبو علی منصور بن عبد اللّه بن علی الزواوی التلمسانی (710- 765) و قد قدم غرناطة عام 753 و لبث بها 13 سنة، و كان جاءها لیتلقی عن ابن الفخار البیری فانتصب للتدریس، و درس علیه صاحب ترجمتنا مختصر ابن الحاجب، و كان الزواوی حبیبا إلی نفس الشاطبی لتجانس روحیهما، فقد كان أبو علی متمسكا بالسنة شدید التمسك، و كان له فی منهج الشاطبی أثر بیّن یدلنا علیه ما یذكره الشاطبی أنه كان كثیرا ما یذكر له قول بعض العقلاء:" لا یسمی العالم بعلم ما عالما بذلك العلم علی الإطلاق حتی تتوفر فیه أربعة شروط:
أحدها: أن یكون قد أحاط علما بأصول ذلك العلم علی الكمال.
و الثانی: أن تكون له قدرة علی العبارة عن ذلك العلم.
و الثالث: أن یكون عارفا بما یلزم عنه.
و الرابع: أن تكون له قدرة علی دفع الإشكالات الواردة علی ذلك العلم".
4- أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن أبی بكر المقری الكبیر، جد المقری الصغیر صاحب" نفح الطّیب". ولد بتلمسان، و سافر إلی المشرق و عاد إلی فاس، ثم وفد إلی غرناطة سنة 757 ه، و انتصب بها للتدریس و قد سبقته شهرته إلیها، و كان ذا نزعة فی التصوف أثرت فی الشاطبی، و اقترب منه الشاطبی حین دراسته علیه الفقه و التصوف و الحدیث، و خصه المقری بسندین مسلسلین أحدهما سند مصافحة و الآخر سند تلقین.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 25
5- أبو عبد اللّه محمد بن مرزوق (710 تلمسان- 781 القاهرة)، وفد علی غرناطة و انتصب للتدریس و محوره فی دروسه تدریس الفقه بشرح الحدیث فكان یشرح الموطأ بروایة اللیثی. انكب آخر عمره علی شرح" الشفا" للقاضی عیاض و مات دون إتمامه.
6- أبو جعفر أحمد الشقوری: شیخ الشاطبی فی الفرائض و الفقه علی" المدونة".
7- أبو عبد اللّه البلنسی: ذكر أنه مفسر و نحوی.
8- أبو عبد اللّه الشریف التلمسانی، صاحب كتاب" مفتاح الوصول إلی بناء الفروع علی الأصول".
و غیر هؤلاء تلقی عنهم الشاطبی فنبغ وفاق.

تلامیذه «1»:

زخرت أبحر أبی إسحاق و علا كعبه فی العلم عن ذهن متوقد و قریحة صافیة، فكان لا بد أن یقصده طلاب المناهل، و لا بدّ أن ینتصب هؤلاء لأداء الأمانة، فقام لذلك بجامع غرناطة الأعظم یدرس خمسة علوم: الفقه و الأصول و الحدیث و القراءات و النحو.
فاعتمد فی تدریسه النحو كتاب سیبویه و بعض شروح" الخلاصة".
و فی تدریسه الأصول مختصر ابن الحاجب، ثم درس كتابه" الموافقات" بعد تمامه.
و فی الحدیث مقدمة ابن الصلاح.
______________________________
(1) المرجعان السابقان.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 26
و فی الفقه مصادر منها: موطأ مالك، و مدونة سحنون.
و فی القراءات:" التیسیر" لأبی عمرو الدانی.
و كان لأبی إسحاق تلامذة نبغ منهم من نذكره لنباهة شأنه:
1- أبو یحیی بن محمد بن عاصم، من أسرة شهیرة بغرناطة، تلقی عن الشاطبی الفقه و علوم اللغة و تولی الوزارة لبنی الأحمر، و لقب بابن الخطیب الثانی، و استشهد فی جهاد النصاری 813 ه.
2- أخوه أبو بكر بن عاصم، لقب بالقاضی؛ إذ ولی القضاء بغرناطة، و برع فی العلوم و ألف تآلیف منها أرجوزة العاصمة فی الفقه، و كان جل اهتمامه منصبّا علی علم الأصول تأثرا بشیخه، كما اختصر" الموافقات" لأستاذه أبی إسحاق.
3- أبو عبد اللّه محمد المجاری الأندلسی: تلقی عن الشاطبی علم النحو، و صنف كتابا عن شیوخه عرف باسم" برنامج المجاری"، ارتحل إلی المشرق لطلب العلم، و توفی 862 ه.
4- أبو جعفر القصار، تلمیذ فهم أثیر كان أبو إسحاق أثناء تألیفه" الموافقات" یعرض علیه بعض المسائل و یباحثه فیها ثم یدونها.
5- أبو عبد اللّه البیانی، فقیه.
6- ابن جعفر الفخار.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 27

مؤلفات أبی إسحاق الشاطبی «1»:

مجمل مؤلفات أبی إسحاق هی:
1- الموافقات.
2- الاعتصام.
3- الإفادات و الإنشاءات.
4- كتاب المجالس.
5- شرح الخلاصة.
6- عنوان الاتفاق فی علم الاشتقاق.
7- أصول النحو.
كما أن بعض فتاویه جمعت حدیثا.
و إلیك الحدیث عن كلّ:
1- الموافقات: و كان قد سماه" عنوان التعریف، بأسرار التكالیف"، و هو أشهر كتب أبی إسحاق و أكثرها ذیوعا، و لیس موضوعه أصول الفقه كما یتبادر، و لكن أصول الفقه بعض موضوعاته، و سائر البحوث التی یفیض بها الكتاب تدخل تحت فلسفة التشریع و أسرار التكلیف.
ظهر مطبوعا أول مرة بتونس 1884 م؛ إذ كان مخطوطا متداولا بین أیدی العلماء و الطلاب.
ثم طبع بمصر بالسلفیة، بتعلیق الشیخ محمد الخضر حسین التونسی- نزیل مصر- علی الجزءین الأولین و تعلیق الشیخ حسنین مخلوف علی الثالث و الرابع، و ذلك سنة 1922 م.
______________________________
(1) المرجعان السابقان، و أیضا: مقدمة فتاوی الشاطبی، د. محمد أبو الأجفان.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 28
و طبع بعد ذلك طبعة أخری بالمكتبة التجاریة الكبری دون تاریخ، بتحقیق و تعلیق الشیخ عبد اللّه دراز.
ثم طبعته مكتبة صبیح بمصر طبعة أخری سنة 1969 م بتحقیق محمد محیی الدین عبد الحمید.
و طبع منه الجزء الأول فی مدینة قازان السوفیتیة عام 1909 م.
2- الاعتصام: و هو فی البدع و المحدثات، المیدان الذی صرف إلیه الشاطبی شطرا كبیرا من همته. و الكتاب مضمن فی جزءین، ناقش موضوعاته وفق منهاج أصولی بعبارة رصینة، و تضمن بعض مباحث الأصول.
نشره لأول مرة السید محمد رشید رضا صاحب المنار عام 1913 م، و طبع ثانیة بالمكتبة التجاریة مع المقدمة التی قدم بها رشید رضا للطبعة الأولی. و طبع ثالثة بدار المعرفة ببیروت مع ذات المقدمة.
3- الإفادات و الإنشاءات: وصف بأنه فیه طرف و ملح أدبیة و إنشاءات، و هو مطبوع منذ ما یزید علی عقد من الزمان، بتحقیق محمد أبو الأجفان.
4- كتاب المجالس: غیر مطبوع، شرح فیه الشاطبی كتاب البیوع من صحیح البخاری، و هو الكتاب الوحید الذی یذكر للشاطبی فی الفقه، فله بهذا منزلة خاصة، یذكر التنبكتی فی" نیل الابتهاج" أن فیه من الفوائد و التحقیقات ما لا یعلمه إلا اللّه.
5- شرح الخلاصة (ألفیة ابن مالك): ذكر بعض الباحثین أنه یضم أربعة أجزاء كبیرة، و توجد نسخة منه بالخزانة الملكیة بالرباط تحت رقم (276)، و أن جامعة أم القری تقوم بتحقیقه و نشره.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 29
6- عنوان الاتفاق فی علم الاشتقاق: و هو فی علم الصرف وفقه اللغة، كما یظهر من اسمه، و یذكر التنبكتی أن الشاطبی أتلفه فی حیاته.
7- أصول النحو: تضمن القواعد الأصلیة التی لا غنی عنها لطلاب هذا العلم، و یذكر أنه تلف أیضا كسابقه.
8- (ما یلحق بمؤلفاته): و هو فتاوی الإمام الشاطبی، و هو كتاب ظهر حدیثا، و لیس فی حقیقته مصنفا للشاطبی إذ هو عبارة عن جمع لستین فتوی من فتاوی الشاطبی المنثورة فی كتب عدة یعود أصل بعضها إلی" الموافقات" و بعضها إلی" الاعتصام"، و قد جمع هذه الفتاوی بعض المؤلفین سابقا كابن كركاط فی" الفتاوی"، و الونشریسی فی" المعیار"، ثم استخرجها كلها محمد أبو الأجفان و جعلها كتابا مستقلا بهذا الاسم.
هذا تطواف سریع حاولنا فیه أن نلملم شواهد تكشف لنا عن بنیان شامخ یقف علما باذخا فی سلسلة رواد علوم الشریعة الأول كتمهید لموضوع هذا البحث.
رحم اللّه أبا إسحاق علی ما بذل لدین اللّه، و شكر اللّه له سعیه و هو الشكور، و نفع بعلمه و هو صانع ذلك، إنه علی كل شی‌ء قدیر.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 30

الأصل الأول فیما یعوّل علیه من اللغة فی علوم القرآن‌

مقدمة

بدایة أقول: إن لتفسیر القرآن الكریم أصولا، التزمها علماء القرآن عبر القرون؛ سواء أ كان التفسیر تفسیرا بالمأثور أم تفسیرا بالرأی.
و أهم هذه الأصول هی:
أن یطلب تفسیر القرآن أول ما یطلب من القرآن نفسه. فإن لم نظفر بتفسیر القرآن من القرآن؛ فمن السنة النبویة الصالحة للحجیة (أعنی الثابتة بطریق صحیح أو حسن). فإن أعیانا البیان من السنة؛ تطلبناه فی أقوال الصحابة. فإن ظفرنا من قولهم بما له حكم المرفوع إلی النبی صلی اللّه علیه و سلم (بأن كان قول أحدهم فیما لا مجال للرأی فیه، و لم یكن قائله معروفا بالأخذ عن بنی إسرائیل، أو كان .. و لكنّ مرویه مما لا صلة له بما لدی بنی إسرائیل)؛ وجب أن نأخذ بهذا القول أخذنا بالحدیث المرفوع بلا أدنی فرق.
فإن لم یتوافر الثابت من مأثور الصحابة علی هذه الحال (بأن اختل فیه الشرطان الآنفان ... أحدهما أو كلاهما)؛ لم یخل الأمر عندهم من إحدی أحوال أربع:
أولاها: أن یعرف كونه محلا لإجماع الصحابة، و أنه لم یشذ عن القول به أحد منهم.
الثانیة: أن یعرف كونه مجالا لاختلافهم .. اختلافا تضل معه الفكرة، و لا یهتدی فیه إلی الصواب حسب غالب الظن.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 31
الثالثة: أن یكون كسابقه .. و لكن مع تبین وجه الصواب منه، و ترجحه فی غالب الظن.
الرابعة: ألا یعرف فیه إجماع منهم و لا اختلاف، و إنما غایة الأمر فیه أنه أثر عن الواحد و الاثنین مثلا دون أن یبلغنا عن أحد من الصحابة ما یخالف أو یوافق.
فإن كان الاحتمال الأول؛ وجب الأخذ بمقتضاه، و ذلك لأجل الإجماع؛ إذ الإجماع- كما هو معلوم فی علم الأصول- لا بد أن یكون له مستند من القرآن أو السنة، فالأخذ بالمجمع علیه هو أخذ فی ذات الوقت بمستند الإجماع.
أما الحال الثانیة (و هی أن یقع منهم الاختلاف علی وجه لا یتبین معه الصواب)؛ فإن أهل السنة لا یلتفتون إلی مأثورهم فی مثل هذه الحال؛ لعدم الجدوی بالكلیة.
أما الحالان الأخیرتان (ألّا یصل اختلافهم فیه إلی خفاء وجه الصواب منه، أو یثبت عن أحدهم الأثر دون أن یعرف إجماع منهم علیه و لا اختلاف فیه)؛ فإن الراجح الأخذ بمأثورهم فیهما.
فإن لم نجد البیان فی أقوال الصحابة؛ فالنظر فی أقوال التابعین .. فإن أجمعوا علی شی‌ء؛ أخذنا به؛ لأجل الإجماع. فإن لم یكن إجماع؛ ننظر ... فإن ظفرنا من قولهم بما له حكم المرفوع المرسل (بأن كان قول أحدهم فیما لا مجال للرأی فیه، و لم یكن قائله معروفا بالأخذ عن بنی إسرائیل، أو بأن یكون قائله إماما من أئمة التفسیر
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 32
الآخذین عن الصحابة)؛ فالراجح الأخذ بمثل هذا القول. فإن لم یكن للمأثور عن التابعی هذان الشرطان؛ فهو ما حكی الزركشی فیه الخلاف «1».
و هذه الألوان الأربعة من التفسیر یجب عند أهل الحق أخذها، و التعویل علیها علی هذا الترتیب .. لكن شریطة ألا یتعارض أیّ منها تعارضا حقیقیّا یتعذر فیه الجمع مع المعقول القطعی. فإن وقع مثل ذلك التعارض؛ وجب تأویل المنقول، و طرح ظاهره لأجل المعقول.
فإن لم یظفروا بشی‌ء من بیان ما یقصدون إلی بیانه (لا فی الكتاب، و لا فی السنة الثابتة، و لا فی المأثور الصالح للحجیة من أقوال الصحابة أو التابعین)؛ اجتهدوا رأیهم .. بعد تحصیل العلوم، و توفر الملكات اللازمة للاجتهاد، متوخین فی ذلك المنطق اللغوی، بأن یحملوا مفردات النظم القرآنی و تركیبه علی ظواهرها المتبادرة منها لغة علی ما هو معهود العرب الخلّص؛ ما لم تصرف قرائن معتبرة عن تلك الظواهر «2».
هذا .. و حجیة المنطق اللغوی قائمة علی أساس أن القرآن الكریم قد نزل علی أسالیب اللغة العربیة و قوانینها و خصائصها فی الأداء، قال تعالی فی بیانه الإلهی: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِیًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة یوسف: 2]، و قال: بِلِسانٍ عَرَبِیٍّ مُبِینٍ [سورة الشعراء: 195].
______________________________
(1) انظر: البرهان فی علوم القرآن، 2/ 158.
(2) انظر: الدخیل، لأستاذنا الدكتور إبراهیم خلیفة، ص 27 و ما بعدها.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 33
و فی بیان ذلك یقول الشاطبی:" لا ینبغی فی الاستنباط من القرآن الاقتصار علیه دون النظر فی شرحه و بیانه (و هو السنة)؛ لأنه إذا كان كلیّا فلا محیص عن النظر فی بیانه. و بعد ذلك ینظر فی تفسیر السلف الصالح له- إن أعوزته السنة- .. فإنهم أعرف به من غیرهم. و إلا .. فمطلق الفهم العربی لمن حصّله یكفی فیما أعوز من ذلك" «1».
هذا .. و قد عقد الشاطبی القسم الثالث من كتابه" الموافقات" لبیان مقاصد الشریعة بقسمیها: ما یرجع إلی الشارع الحكیم، و ما یرجع إلی العبد المكلف.
و جعل القسم الأول أربعة أنواع: قصده الشارع فی وضع الشریعة ابتداء، قصده فی وضعها للإفهام، قصده فی وضعها للتكلیف بمقتضاها، قصده فی دخول المكلف تحت حكمها.
و الذی یعنینا منها فی هذا المقام هو: النوع الثانی: ما قصده الشارع فی وضعها للإفهام. و هو یقیم هذا النوع علی خمس مسائل.
و أحب أن ألفت النظر إلی أننی لن أتقید فی بحثی هذا بذكر مسائله الخمس، بل أذكر منها ما له صلة مباشرة بما یعوّل علیه فی علوم القرآن. كما أننی لا ألتزم كذلك ترتیبه الذی انتهجه، مراعاة لما أتغیّاه من ربط القضایا محل البحث بعضها ببعض.
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 369.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 34

(1) عربیة القرآن‌

قرر الشاطبی أن الشریعة عربیة اللسان، لا مدخل فیها للألسن الأعجمیة، مما یوجب علی أهل العلم أن یكون فهمهم خطابها من هذا الطریق:" من أراد تفهمه؛ فمن جهة لسان العرب یفهم، و لا سبیل إلی تطلّب فهمه من غیر هذه الجهة" «1».
فالقرآن نزل بلسان العرب، فطلب فهمه یجب أن یكون طبقا للغة العرب فی قواعدها الدلالیة و البیانیة. غیر أن علماء القرآن و الأصول اختلفوا: هل فی القرآن كلمات غیر عربیة؟
المحققون من أهل الفقه بالقرآن علی أن" القرآن الكریم جاء بأصفی ألفاظ اللغة العربیة، و أعذبها، و أفصحها، مما لا یمكن أن یخدش عربیة لغة القرآن؛ بحیث لا تجد لفظا واحدا فیه إلا و له أصالة فی العربیة. أما ما یدعیه البعض من وجود ألفاظ أعجمیة فی القرآن .. فلیس فی القرآن لفظ أعجمی لا یعرفه العربی، أو لم یستعمله. و كیف یصح خلاف ذلك و القرآن یكذّبه عند ما یبین أنه نزل بلسان عربی؟! و هذا یقتضی أن اسم الشی‌ء، و وصفه المخلوع علی اسمه معا، یجب أن یحمل علی جمیعه كما هو متبادر. و علیه ..
یكون جمیع القرآن عربیّا، و قد قال عزّ و جل فی ردّه علی من زعم أن النبی یعلّمه بشر فقال: لِسانُ الَّذِی یُلْحِدُونَ إِلَیْهِ أَعْجَمِیٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِیٌّ مُبِینٌ [سورة النحل: 103]، و قال عزّ و جل: وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِیًّا لَقالُوا
______________________________
(1) الموافقات، 2/ 64.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 35
لَوْ لا فُصِّلَتْ آیاتُهُ ءَ أَعْجَمِیٌّ وَ عَرَبِیٌ [سورة فصلت: 44]. فالكلمة إذا كانت عربیة و لكنها حوشیة مجهولة لم تكن توصف بالفصاحة .. فكیف بالكلام الأعجمی مجهول اللفظ و المعنی؟! و لو كان فی القرآن أعجمی؛ لبادر العرب بإنكاره علی القرآن. فمن ینفی وجود الأعجمی فی القرآن إنما یقصد الذی لا تعرفه العرب و لا تستعمله. و من قال بوجوده فهو یقصد الذی عرفه العرب، و استعملوه حتی لان و انقاد للسانهم. و هكذا یكون الخلاف بین الفریقین لفظیّا؛ لأنه توارد علی محلین لا محل واحد" «1».
و قال الشاطبی فی بیان ذلك:" إذا كانت العرب قد تكلمت به، و جری فی خطابها، و فهمت معناه؛ صار من كلامها. أ لا تری أنها لا تدعه علی لفظه الذی كان علیه عند العجم إلا إذا كانت حروفه فی المخارج و الصفات كحروف العرب، و هذا یقل وجوده، و عند ذلك یكون منسوبا إلی العرب. فأما إذا لم تكن حروفه كحروف العرب، أو كان بعضها كذلك دون بعض؛ فلا بد لها من أن تتصرف فیه بالتغییر كما تتصرف فی كلامها. و إذا فعلت ذلك؛ صارت تلك الكلم مضمومة إلی كلامها كالألفاظ المرتجلة، و الأوزان المبتدأة لها" «2».
و علی هذا التحریر یحمل ما نقله الزركشی عن جمهور العلماء من عدم وجود غیر العربی فی القرآن، و منهم أبو عبیدة، و الطبری، و القاضی أبو بكر بن الطیب فی" التقریب"، و ابن فارس اللغوی، و الشافعی فی" الرسالة". و نقل عن الشافعی ردّه علی القائلین بوقوع الأعجمی فی القرآن «3». و حكی عن ابن فارس عن أبی عبیدة أنه أنكر
______________________________
(1) د. إبراهیم خلیفة، الإحسان فی مباحث من علوم القرآن، ص 186، 187.
(2) الموافقات، 2/ 65.
(3) الرسالة، تحقیق الأستاذ أحمد شاكر، ص 40.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 36
قول القائلین بوقوع غیر العربی فی القرآن؛ لأنه لو كان واقعا لتوهم متوهم أن العرب عجزت عن الإتیان بمثله لأنه یشتمل علی غیر لغاتهم «1».
ثم یقرر الشاطبی أن الخلاف فی مجی‌ء كلمات أعجمیة فی البیان القرآنی لا ینبنی علیه حكم شرعی. و لكنّ القول بأن القرآن نزل بلسان العرب یهدی إلی أنه لا یمكن أن یفهم إلا من جهة لسان العرب؛ لأن معنی عربیته" أنه أنزل علی لسان معهود العرب فی ألفاظها الخاصة، و أسالیب معانیها، و أنها فیما فطرت علیه من لسانها تخاطب بالعام یراد به ظاهره، و بالعام یراد به العام فی وجه و الخاص فی وجه، و بالعام یراد به الخاص، و الظاهر یراد به غیر الظاهر .. و كل هذا معروف عندها، لا ترتاب فی شی‌ء منه، هی، و لا من تعلّق بعلم كلامها.
فإذا كان كذلك؛ فالقرآن فی معانیه، و أسالیبه علی هذا الترتیب. فكما أن لسان بعض الأعاجم لا یمكن أن یفهم من جهة لسان العرب .. كذلك لا یمكن أن یفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم؛ لاختلاف الأوضاع و الأسالیب.
و الذی نبّه علی هذا المأخذ فی المسألة هو الشافعی الإمام فی رسالته الموضوعة فی أصول الفقه" «2».
و نص الشافعی فی ذلك قوله:" و من جماع علم كتاب اللّه: العلم بأن جمیع كتاب اللّه إنما نزل بلسان العرب" «3» .." و أنه لا یعلم من إیضاح جمل علم
______________________________
(1) البرهان فی علوم القرآن، 1/ 287 و ما بعدها.
(2) الموافقات، 2/ 65، 66.
(3) الرسالة، ص 40.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 37
الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب، و كثرة وجوهه، و جماع معانیه و تفرقها.
و من علمه؛ انتفت عنه الشّبه التی دخلت علی من جهل لسانها" «1».
______________________________
(1) المرجع السابق، ص 50.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 38

(2) اتباع معهود العرب فی فهم الخطاب‌

اشارة

إذا كان هذا الذی قلناه واضحا، و ما إخاله یخفی علی أحد من أن القرآن الكریم نزل بلسان عربی مبین، و أنه اتخذ من قوانین اللغة و خصائصها فی البیان أداة و نهجا و أسلوبا للتعبیر عن معانیه .. أقول: إذا كان هذا هكذا؛ فإنه ینبغی أن یسلك به فی الاستنباط و الاستدلال مسلك العرب فی تقریر معانیه علی ما هو المعهود عندهم فی تلقی الخطاب.
و المقصود بموافقة القرآن معهود العرب: أنه لم یخرج عن لغتهم من حیث ذوات المفردات و الجمل و قوانینها العامة. فمن حروفهم جاءت كلماته، و من كلماتهم نظمت تراكیبه، و علی قواعدهم العامة فی صیاغة هذه المفردات، و تكوین تلك التراكیب جاء تألیفه.
فإن قلت: ما دام منزّله- جل شأنه- قد أجراه علی سنن العرب فی كلامها؛ ففیم كان الإعجاز؟
و نجیب عن هذا التساؤل بما أجاب به شیخ أشیاخنا العلامة الدكتور محمد عبد اللّه دراز- رحمة اللّه علیه- فی كتابه الفذ" النبأ العظیم" .. و ذلك حیث یقول:
" فإن قال: قد تبینت الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن كان عجزا، و أنهم وجدوا فی طبیعة القرآن سرّا من أسرار الإعجاز یسمو به عن قدرتهم. و لكنی لست أفهم أن ناحیته اللغویة یمكن أن تكون من مظانّ هذا السر؛ لأنی أقرأ القرآن فلا أجده یخرج عن معهود العرب فی لغتهم العربیة. فمن حروفهم ركّبت كلماته، و من كلماتهم ألّفت جمله و آیاته، و علی مناهجهم فی
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 39
التألیف جاء تألیفه .. فأی جدید فی مفردات القرآن لم یعرفه العرب من موادّها و أبنیتها؟ و أی جدید فی تركیب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها و لم تأخذ به فی مذاهبها، حتی نقول إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغویة؟
قلنا له: أما أن القرآن الكریم لم یخرج فی لغته عن سنن العرب فی كلامهم إفرادا و تركیبا؛ فذلك فی جملته حق لا ریب فیه. و بذلك كان أدخل فی الإعجاز، و أوضح فی قطع الأعذار: وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِیًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آیاتُهُ ءَ أَعْجَمِیٌّ وَ عَرَبِیٌ [سورة فصلت: 44].
و أما بعد .. فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البیان كمثل صنعة البنیان؟! فالمهندسون البناءون لا یخلقون مادّة بناء لم تكن فی الأرض، و لا یخرجون فی صنعتهم عن قواعدها العامة، و لا یعدو ما یصنعونه أن یكون جدرانا مرفوعة، و سقفا موضوعة، و أبوابا مشرّعة، و لكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك فی اختیار أمتن المواد و أبقاها علی الدهر، و أكنّها للناس من الحرّ و القرّ، و فی تعمیق الأساس و تطویل البنیان، و تخفیف المحمول منها علی حامله، و الانتفاع بالمساحة الیسیرة فی المرافق الكثیرة، و ترتیب الحجرات و الأبهاء بحیث یتخللها الضوء و الهواء. فمنهم من یفی بذلك كله أو جله، و منهم من یخل بشی‌ء منه أو أشیاء ..
إلی فنون من الزینة و الزخرف یتفاوت الذوق الهندسی فیها تفاوتا بعیدا.
كذلك تری أهل اللغة الواحدة .. یؤدون الغرض الواحد علی طرائق شتی یتفاوت حظها فی الحسن و القبول، و ما من كلمة من كلامهم و لا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة و قواعدها فی الجملة. و لكنه حسن الاختیار فی تلك المواد و الأوضاع قد یعلو بالكلام حتی یسترعی سمعك، و یثلج صدرك،
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 40
و یملك قلبك. و سوء الاختیار فی شی‌ء من ذلك قد ینزل به حتی تمجّه أذنك، و تغثی منه نفسك، و ینفر منه طبعك".
ثم یقول- رحمة اللّه علیه:" .. فالجدید فی لغة القرآن أنه فی كل شأن یتناوله من شئون القول یتخیر له أشرف الموادّ، و أمسّها رحما بالمعنی المراد، و أجمعها للشوارد، و أقبلها للامتزاج، و یضع كل مثقال ذرة فی موضعها الذی هو أحق بها و هی أحق به ... بحیث لا یجد المعنی فی لفظه إلا مرآته الناصعة، و صورته الكاملة، و لا یجد اللفظ فی معناه إلا وطنه الأمین، و قراره المكین. لا یوما أو بعض یوم، بل علی أن تذهب العصور و تجی‌ء العصور، فلا المكان یرید بساكنه بدلا، و لا الساكن یبغی عن منزله حولا .. و علی الجملة یجیئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلی فی صناعة البیان".
ثم ینتقل إلی خصائص الأسلوب القرآنی، فیبین الأسباب التی بلغ بها درجة الإعجاز .. و نجتزئ من كلماته النیّرة الفذة .. قال- رحمة اللّه علیه:

خطاب العامة و خطاب الخاصة:

و هاتان غایتان أخریان متباعدتان عند الناس. فلو أنك خاطبت الأذكیاء بالواضح المكشوف الذی تخاطب به الأغبیاء؛ لنزلت بهم إلی مستوی لا یرضونه لأنفسهم فی الخطاب. و لو أنك خاطبت العامة باللمحة و الإشارة التی تخاطب بها الأذكیاء؛ لجئتهم من ذلك بما لا تطیقه عقولهم. فلا غنی لك (إن أردت أن تعطی كلتا الطائفتین حظّها كاملا من بیانك) أن تخاطب كل واحدة منهما بغیر ما تخاطب به الأخری، كما تخاطب الأطفال بغیر ما تخاطب به الرجال. فأما أن جملة واحدة تلقی إلی العلماء و الجهلاء، و إلی الأذكیاء و الأغنیاء، و إلی السّوقة و الملوك .. فیراها كلّ منهم مقدّرة علی مقیاس عقله و علی وفق
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 41
حاجته؛ فذلك ما لا تجده علی أتمّه إلا فی القرآن الكریم. فهو قرآن واحد .. یراه البلغاء أو فی كلام بلطائف التعبیر، و یراه العامة أحسن كلام و أقربه إلی عقولهم ..
لا یلتوی علی أفهامهم، و لا یحتاجون فیه إلی ترجمان وراء وضع اللغة .. فهو متعة العامة و الخاصة علی السواء، میسّر لكل من أراد: وَ لَقَدْ یَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سورة القمر: 17].

إقناع العقل و إمتاع العاطفة:

و فی النفس الإنسانیة قوتان: قوة تفكیر، و قوة وجدان. و حاجة كل واحدة منهما غیر حاجة أختها. فأما إحداهما؛ فتنقب عن الحق لمعرفته، و عن الخیر للعمل به. و أما الأخری؛ فتسجل إحساسها بما فی الأشیاء من لذة و ألم. و البیان التام هو الذی یوفّی لك هاتین الحاجتین، و یطیر إلی نفسك بهذین الجناحین، فیؤتیها حظّها من الفائدة العقلیة و المتعة الوجدانیة معا.
فهل رأیت هذا التمام فی كلام الناس؟
لقد عرفنا كلام العلماء و الحكماء، و عرفنا كلام الأدباء و الشعراء .. فما وجدنا من هؤلاء و لا هؤلاء إلا غلوّا فی جانب، و قصورا فی جانب! فأما الحكماء .. فإنما یؤدون إلیك ثمار عقولهم غذاء لعقلك، و لا تتوجه نفوسهم إلی استهواء نفسك و اختلاب عاطفتك، فتراهم حین یقدّمون إلیك حقائق العلوم لا یأبهون لما فیها من جفاف و عری و نبوّ عن الطباع.
و أما الشعراء .. فإنما یسعون إلی استثارة وجدانك، و تحریك أوتار الشعور من نفسك، فلا یبالون بما صوّروه لك أن یكون غیّا أو رشدا، و أن یكون حقیقة أو تخیلا .. فتراهم جادّین و هم هازلون .. یستبكون و إن كانوا لا یبكون، و یطربون و إن كانوا لا یطربون! وَ الشُّعَراءُ یَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 42
فِی كُلِّ وادٍ یَهِیمُونَ (225) وَ أَنَّهُمْ یَقُولُونَ ما لا یَفْعَلُونَ [سورة الشعراء: 224- 226].
و كل امرئ حین یفكر فإنما هو فیلسوف صغیر. و كل امرئ حین یحس و یشعر فإنما هو شاعر صغیر. فسل علماء النفس: هل رأیتم أحدا تتكافأ فیه قوة التفكیر و قوة الوجدان و سائر القوی النفسیة علی سواء؟ و لو مالت هذه القوی إلی شی‌ء من التعادل عند قلیل من الناس .. فهل ترونها تعمل فی النفس دفعة و بنسبة واحدة؟ یجیبوك بلسان واحد: كلا. بل لا تعمل إلا مناوبة فی حال بعد حال. و كلما تسلطت واحدة منهن؛ اضمحلت الأخری و كاد ینمحی أثرها.
فالذی ینهمك فی التفكیر تتناقص قوة وجدانه، و الذی یقع تحت تأثیر لذة أو ألم یضعف تفكیره. و هكذا .. لا تقصد النفس الإنسانیة إلی هاتین الغایتین قصدا واحدا، و إلا؛ لكانت مقبلة مدبرة معا! و صدق اللّه: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَیْنِ فِی جَوْفِهِ [سورة الأحزاب: 4].
فكیف تطمع من إنسان فی أن یهب لك هاتین الطّلبتین علی سواء، و هو لم یجمعهما فی نفسه علی سواء؟!
و ما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة علیه من بین تلك الأحوال.
هذا مقیاس تستطیع أن تتبین به فی كل لسان و قلم أی القوتین كان خاضعا لها حین قال أو كتب .. فإذا رأیته یتجه إلی تقریر حقیقة نظریة أو وصف طریقة عملیة؛ قلت: هذا ثمرة الفكرة. و إذا رأیته یعمد إلی تحریض النفس أو تنفیرها، و قبضها و بسطها، و استثارة كوامن لذاتها أو ألمها؛ قلت: هذا ثمرة العاطفة. و إذا رأیته قد انتقل من أحد هذین الضربین إلی الآخر، فتفرّغ له بعد ما قضی وطره
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 43
من سابقه- كما ینتقل من غرض إلی غرض- عرفت بذلك تعاقب التفكیر و الشعور علی نفسه.
و أما أن أسلوبا واحدا یتجه اتجاها واحدا، و یجمع فی یدیك هذین الطرفین معا .. كما یحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقا و أزهارا و أثمارا معا، أو كما یسری الروح فی الجسد، و الماء فی العود الأخضر؛ فذلك ما لم تظفر به فی كلام البشر، و لا هو من سنن اللّه فی النفس الإنسانیة.
فمن لك إذن بهذا الكلام الواحد الذی یجی‌ء من الحقیقة البرهانیة الصارمة بما یرضی حتی أولئك الفلاسفة المتعمقین، و من المتعة الوجدانیة الطیبة بما یرضی حتی هؤلاء الشعراء المرحین؟
ذلك .. اللّه رب العالمین. فهو الذی لا یشغله شأن عن شأن، و هو القادر علی أن یخاطب العقل و القلب معا بلسان، و أن یمزج الحق و الجمال معا .. یلتقیان و لا یبغیان، و أن یخرج من بینهما شرابا خالصا سائغا للشاربین.
و هذا هو ما تجده فی كتابه الكریم حیثما توجهت ..
أ لا تراه فی فسحة قصصه و أخباره لا ینسی حق العقل من حكمة و عبرة؟!
أولا تراه فی معمعة براهینه و أحكامه لا ینسی حظّ القلب من تشویق و ترقیق، و تحذیر و تنفیر، و تهویل و تعجیب، و تبكیت و تأنیب .. یبث ذلك فی مطالع آیاته و مقاطعها و تضاعیفها؟! .. تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِینَ یَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلی ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الزمر: 23]، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) [سورة الطارق: 13- 14]" «1».
______________________________
(1) انظر: النبأ العظیم، ص 89، 90، 113، 115.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 44
و الآن .. نعود إلی أصل مسألتنا (أعنی اتباع معهود العرب فی تلقی الخطاب) ..
و فی بیان ذلك یقول الشاطبی:" إنه لا بدّ فی فهم الشریعة من اتباع معهود الأمیین؛ و هم العرب الذین نزل القرآن بلسانهم" «1».
و یقول الإمام الشافعی فی هذا أیضا:" إنما خاطب اللّه بكتابه العرب بلسانها علی ما تعرف من معانیه" «2».
و من الضروری فی تحدید معهود الخطاب معرفة عادات العرب فی أقوالها و أفعالها المصاحبة لنزول القرآن الكریم؛ إذ إنّ كثیرا من الألفاظ إذا أرید تفسیرها بمجرد لغة العرب من غیر الرجوع إلی هذه العادات توقع المفسّر أو المستنبط للقرآن الكریم فی الغلط و الجهل.
یقول الشاطبی:" لا بد لمن أراد الخوض فی علم القرآن و السنة من معرفة عادات العرب فی أقوالها، و مجاری عاداتها حالة التنزیل من عند اللّه و البیان من رسوله صلی اللّه علیه و سلم؛ لأن الجهل بها موقع فی الشّبه و الإشكالات التی یتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة" «3».
و من ذلك قوله تعالی فی بیانه الإلهی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [سورة آل عمران: 130] .. فإن ظاهر الآیة یوهم تقیید الربا المحرم بها إذا كان أضعافا مضاعفة؛ لكن إذا علم أن الغالب من عادات العرب
______________________________
(1) الموافقات، 2/ 82.
(2) الرسالة، ص 51.
(3) الموافقات، 3/ 351.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 45
التعامل بالربا المضاعف، و أن الرجل منهم كان یربی أجل، فإذا حلّ قال للمدین:
زدنی فی المال حتی أزیدك فی الأجل، فیفعل .. و هكذا عند محل كل أجل كان یستأصل ما له بالدین الطفیف .. أقول: إذا علم هذا؛ علم أن الآیة جاءت مراعاة لعاداتهم، و تندیدا بشنیع معاملاتهم. فلیس الربا مخصوصا بالمضاعف .. بل هو حرام قلیله و كثیره، و القید لبیان الواقع كما یقولون.
و من ذلك قوله تعالی یَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [سورة النحل: 50]، أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِی السَّماءِ [سورة الملك: 16]، و أشباه ذلك .. فإنها جری علی معتادهم من اتخاذ الآلهة فی الأرض، و إن كانوا مقرّین بألوهیة الواحد الحق .. فجاءت الآیات بتعیین الفوق و تخصیصه؛ تنبیها علی نفی ما ادعوه فی الأرض من الأوثان، فلا یكون فیه دلیل البتة علی إثبات الجهة للّه سبحانه.
و من ذلك قوله تعالی: وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْری [سورة النجم: 49] .. فعین هذا الكوكب مع أنه رب الكواكب كلها؛ لأن العرب عبدته، و هم خزاعة، ابتدع لهم ذلك أبو كبشة.
هذا. و لقد صوّر الشاطبی طرفا من معهود العرب فی لسانها فی التراوح بین المعانی و الألفاظ و الأسالیب، فقال:" و من معهودهم: أ لا تری الألفاظ تعبدا عند محافظتها علی المعانی، و إن كانت تراعیها أیضا، فلیس أحد الأمرین عندها بملتزم؛ بل قد تبنی علی أحدهما مرة، و علی الآخر أخری، و لا یكون ذلك قادحا فی صحة كلامها و استقامته" «1».
______________________________
(1) الموافقات، 2/ 82.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 46
و استدل علی ذلك بأدلة:
أولا: خروج العرب فی كثیر من كلامها علی أحكام القوانین المضطردة، و الضوابط المستمرة.
و رده صاحب" سبل الاستنباط" بأن العرب كانت تخرج فی كلامها- شعرا و نثرا- عما هو الكثیر الغالب فی أنماط الصیاغة .. أما البیان القرآنی؛ فلیس فیه خروج عن كل أنماط اللسان العربی و مذاهبه فی القول. و ما قد یظن أنه خروج هو فی حقیقته اصطفاء لنهج من العربیة یتنافی مع فیض دلالی، و قصد بیانی «1».
ثانیا: استغناء العرب ببعض الألفاظ عمّا یرادفها أو یقاربها.
و لا یعدّ ذلك اختلافا و لا اضطرابا إذا كان المعنی المقصود علی استقامته، و الكافی من ذلك: نزول القرآن علی سبعة أحرف «2».
استدلاله- رحمه اللّه- بأن ثمّة ألفاظا تفی بحق ما أقیمت مكانه فی البیان العالی إبداعا أو إعجازا مسلّم فی بعض وجوه البیان الإبداعی، لكنه لا یكون البتة فی البیان القرآنی. فما یكون لكلمة اقتضاها السیاق المقالی أو المقامی فی أفقه أن تفی غیرها بما تفیض هی به من صنوف الدلالة و الهدی علی لاحبه، فلیس فی معجم البیان القرآنی مترادفات البتة، لا فی مفرداته و لا تراكیبه «3». و لو أنك
______________________________
(1) سبل الاستنباط، د. محمود توفیق سعد.
(2) الموافقات، 2/ 83.
(3) سبل الاستنباط، ص 428.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 47
أدرت ألفاظ اللغة علی موضع لفظة واحدة من القرآن الكریم بحثا عن بدیل ما وجدت إلی ذلك سبیلا.
أما دعواه دلالة نزول القرآن علی سبعة أحرف علی وفاء كلمة مكان أخری؛ فهی دعوی غیر مسلّمة. و لسنا هنا فی صدد بیان أقوال العلماء فی المراد من السبعة الأحرف ..
و لكنّ الذی ینبغی التّنبّه إلیه أن المقصود بالحرف هو الوجه من وجوه القراءات، و هی لا تخرج عن سبعة أوجه علی ما ذهب إلیه الإمام أبو الفضل الرازی و غیره:
الأول: اختلاف الأسماء من إفراد و تثنیة و جمع، و تذكیر و تأنیث .. و ذلك كقوله تعالی: وَ الَّذِینَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ [سورة المعارج: 32]. قرئ:
" لأماناتهم" جمعا، و" لأمانتهم" إفرادا.
الثانی: اختلاف تصریف الأفعال من ماض، و مضارع، و أمر: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَیْنَ أَسْفارِنا [سورة سبأ: 19] .. و قرئ:" ربّنا بعّد".
الثالث: وجوه الإعراب: وَ لا یُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِیدٌ [سورة البقرة: 282] .. قرئ بفتح الراء و ضمها.
الرابع: الزیادة و النقص: وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثی [سورة اللیل: 3] .. قرئ:
" و الذكر و الأنثی".
الخامس: التقدیم و التأخیر: وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ [سورة ق: 19]. قرئ:" و جاءت سكرة الحق بالموت".
السادس: القلب و الإبدال: وَ انْظُرْ إِلَی الْعِظامِ كَیْفَ نُنْشِزُها [سورة البقرة: 259] .. قرئ:" ننشرها".
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 48
السابع: اختلاف اللغات من فتح، و إمالة، و ترقیق، و تفخیم و تحقیق، و تسهیل .. وَ هَلْ أَتاكَ حَدِیثُ مُوسی [سورة طه: 9] .. قرئ بالفتح و الإمالة فی" أتی" و لفظ" موسی" «1».
و الخلاصة: أن القراءات السبع هی بعض أحرف القرآن السبعة لا كلها، و أن القراءات العشر المشهورة بین أیدی الناس الیوم هی جمیع الأحرف السبعة التی أنزل اللّه علیها القرآن. و إن شئت قلت: الأحرف السبعة هی القراءات العشر .. بلا أدنی فرق «2».
فالأحرف السبعة هی القراءات العشر المتواترة. و كل قراءة متواترة ذات معنی لا یكون هو معنی غیرها من القراءات الأخری المتواترة، و إلا .. لكان من العبث (الذی ینزّه عنه العقلاء. فضلا عن اللّه الحكیم) أن تنزل قراءات قرآنیة متعددة كل واحدة منها هی عین الأخری فی المعنی.
ثالثا: استدلاله بأن العرب قد تهمل بعض أحكام اللفظ؛ و إن كانت تعتبره علی الجملة «3».
رابعا: استدلاله بأن الممدوح من كلام العرب عند أرباب العربیة ما كان بعیدا عن تكلف الاصطناع، و أن شأن الشاعر العربی إذا اشتغل بالتنقیح اختلفوا فی الأخذ عنه. و إذا كان كذلك؛ فلا یستقیم للمتكلم فی كتاب اللّه، أو
______________________________
(1) مناهل العرفان، 1/ 148.
(2) انظر فی تحقیق هذه المسألة: الإحسان فی علوم القرآن، د. إبراهیم خلیفة.
(3) الموافقات، 2/ 84.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 49
سنة رسوله أن یتكلف فیهما فوق ما یسعه لسان العرب، و لیكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتنی العرب به، و الوقوف عند ما حدّته «1».
و كان مقتضی هذا الدلیل، و الذی قبله أن یأتی الشاطبی من الكتاب و السنة بما فیه إهمال بعض أحكام اللفظ، أو ما رمی به الكلام علی عواهنه، هكذا یقول الشیخ دراز .. لكنّ الشاطبی رتب علی هذین الدلیلین نتیجة لا علاقة لها بهما، فقال:
" لا یستقیم فی كتاب اللّه، أو سنة رسول اللّه أن یتكلف فیهما فوق ما یسعه لسان العرب".
و تعقبه صاحب" سبل الاستنباط":" بأن حدیثه فی فقه النص علی معهود العرب فی بیانها، فأدخل فیه ذم التكلف فی الفهم. و الواقع أن ثمّ تناقضا بین التكلف و الفهم .. إنهما لا یلتقیان؛ لأن الفهم ینبثق من النص، و التكلف یسقط علیه من خارجه" «2».
و بعد ذلك كله فإنّا نقول: إن كل ما ذكرناه هنا، یتلخص فی أن عربیة القرآن تعنی أنه یفهم من خلال معهود العرب فی تلقی الخطاب أیام التشریع.
هذا ما أكده المفسرون و الأصولیون. قال صاحب" المنار":" علی المدقق أن یفسر القرآن بحسب المعانی التی كانت مستعملة فی عصر النزول" «3».
فمن غفل عن ذلك و أخذ ألفاظ القرآن دون مراعاة أوضاع اللغة عند العرب زلّ فهمه، و جانب الصواب. و دونك .. فانظر ما یسمی ب" التأویل
______________________________
(1) الموافقات، 2/ 84، 85.
(2) سبل الاستنباط، ص 433.
(3) تفسیر المنار، 1/ 21، 22.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 50
الباطنی" قدیما، و" القراءة المعاصرة" حدیثا مما لا یخضع لدلالات اللغة العربیة، و أصولها البیانیة، علی ما سیأتی بیانه.
إن من السّبل السدیدة لفهم القرآن الكریم التحصن بحصن قواعد اللغة العربیة، و أوجه دلالاتها كما أراده الشارع الحكیم.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 51

(3) أنواع معانی العربیة و مراتبها

اشارة

و من معهود العرب فی الخطاب- كما یذكر الشاطبی- أن للغة العربیة دلالتین:
الأولی: من جهة كونها ألفاظا و عبارات مطلقة، دالة علی معان مطلقة ..
و هی الدلالة الأصلیة، و هذه تشترك فیها جمیع الألسنة، و إلیها تنتهی مقاصد المتكلمین، و لا تختص بأمة دون أخری، و هی التی یمكن ترجمتها إلی اللغات الأخری، و منها صح تفسیر القرآن، و بیان معناه للعامة و من لیس له فهم یقوی علی تحصیل معانیه.
و الثانیة: من جهة كونها ألفاظا و عبارات مقیدة، دالة علی معان خادمة ..
و هی الدلالة التابعة للدلالة الأصلیة. و هذه الدلالة یختص بها لسان العرب .." فإن كل خبر یقتضی فی هذه الجهة أمورا خادمة لذلك بحسب المخبر، و المخبر عنه، و المخبر به، و نفس الإخبار، فی الحال و المساق، و نوع الأسلوب من الإیضاح و الإخفاء، و الإیجاز و الإطناب، و بحسب الكنایة عنه، و التصریح به، و بحسب ما یقصد فی مساق الإخبار، و ما یعطیه مقتضی الحال .. إلی غیر ذلك من الأمور التی لا یمكن حصرها. فمثل هذه التصرفات التی یختلف معنی الكلام الواحد بحسبها لیست هی المقصود الأصلی، و لكنها من مكملاته و متمماته، و بطول الباع فی هذا النوع یحسن مساق الكلام إذا لم یكن فیه منكر".
" و من هذه الجهة فی الدلالة لا یمكن ترجمة كلام من الكلام العربی بكلام العجم علی حال .. فضلا عن أن یترجم القرآن و ینقل إلی لسان غیر عربی.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 52
و الدلالة فی هذه الجهة كوصف من أوصاف الدلالة فی الجهة الأولی، سواء أ كان وصفا من الأوصاف الذاتیة أو غیر الذاتیة" «1».
و بیان ذلك: أن للغة العربیة دلالة أصلیة تحصل من مجرد نسبة الفعل إلی الفاعل، أو الخبر إلی المبتدأ، فالمعنی الأصلی فی قوله تعالی مثلا: وَ لَكُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ [سورة البقرة: 179]: أن من قتل نفسا بغیر حق یقتل؛ و ذلك حفظا لحیاة الناس، فالقصاص زاجر عن قتل النفس بغیر الحق، فكل عارف بمدلولات الألفاظ یدرك هذا المعنی.
و للغة دلالة أخری ثانویة، و هی ما یبحث عنها فی علم البلاغة، و یسمیها البلاغیون" مستتبعات التراكیب" و هی خواص النظم التی یرتفع بها شأن الكلام.
و إذا كان للقرآن باعتباره ألفاظا لغویة دلالة أصلیة، و أخری تابعة (هی مظهر بلاغته، و ملاك إعجازه)؛ فإن ترجمته بالنظر إلی المعنی الثانوی غیر میسورة، قال الزمخشری فی" الكشاف":" إنّ فی كلام العرب- خصوصا القرآن- من لطائف المعانی ما لا یستقل بأدائه لسان".
أما الذی یمكن نقله إلی لغة أخری؛ فهو المعنی الأصلی، حیث لا تقصر اللغات الأجنبیة عن تأدیتها. هذا ما قرره الشاطبی فی مسألة ترجمة القرآن.
و یعلق الأستاذ الجلیل الشیخ محمد الخضر حسین- رحمه اللّه- علی ما قاله الشاطبی بقوله:" و ترجمة المعانی الأصلیة وحدها، و تسمیتها" ترجمة للقرآن"، یوهم أن المترجم أخذ معانی القرآن من أطرافها، و نقلها إلی اللغة الأجنبیة، كما یقال فی ترجمة غیره: ترجمة طبق الأصل.
______________________________
(1) انظر: الموافقات، 2/ 66، 68 بتصرف، و سبل الاستنباط، ص 417، 418.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 53
أما المفسّر؛ فإنه یتكلم بلهجة المبیّن لمعنی الكلام علی حسب فهمه، فكأنه یقول للناس: هذا ما أفهمه من الآیة. أما المترجم؛ فإنه یتكلم بلهجة من أحاط بمعنی الكلام، و صبّه فی ألفاظ لغة أخری.
و العمل الذی یصان به القرآن من تحریف أو وهم یتسرب إلیه من طریق الترجمة أن یترجم تفسیره" «1».

شبهتان و ردّهما:

إنه علی الرغم من اتفاق العلماء المعتبرین علی الالتزام بفهم القرآن الكریم من خلال معهود العرب فی الخطاب .. فإن ثمّة مغالطتین تثاران حول هذه القاعدة:
المغالطة الأولی، مؤداها: إذا كان القرآن قد ورد علی معهود العرب فی الخطاب؛ فلم كانت الحاجة إلی التفسیر؟
و الجواب: صحیح أن القرآن كله نزل علی معهود العرب بلا ریب؛ لكنّ دلالات الألفاظ علی معانیها تتعدد وجوهها و مناحیها فی لغة العرب، فهناك الحقیقة و المجاز و المشترك. فلیس كل نص تكون دلالته بعبارته .. بل قد تكون بالمنطوق و المفهوم، أو بالإشارة و الاقتضاء.
و هناك الدلالات التی تتفاوت درجاتها من حیث القوة و الضعف: كالمحكم و المفسّر، و النص، و الظاهر و الخفی، و المشكل و المجمل.
و هناك الدلالات التی ینقسم اللفظ فیها إلی: خاص و عام، و مطلق و مقید، و غیر ذلك مما هو من معهود العرب فی الخطاب، و من ثمّ تكون منافذ الاجتهاد منفتحة أمام المفسر.
______________________________
(1) انظر: بلاغة القرآن، للخضر حسین، 68، 69.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 54
و یجیب كذلك عن هذه المغالطة السیوطی- رحمه اللّه- بقوله:" إنّ القرآن إنما نزل بلسان عربی، فی زمن أفصح العرب، و كانوا یعلمون ظواهره و أحكامه.
أما دقائق باطنه؛ فإنما كان یظهر لهم بعد البحث و النظر، مع سؤالهم النبی صلی اللّه علیه و سلم فی الأكثر، كسؤالهم لمّا نزل قوله: الَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یَلْبِسُوا إِیمانَهُمْ بِظُلْمٍ [سورة الأنعام: 82]، فقالوا: و أیّنا لم یظلم نفسه؟! ففسره النبی صلی اللّه علیه و سلم بالشرك، و استدل علیه بقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِیمٌ [سورة لقمان: 13]، و كسؤال عائشة إیاه عن الحساب الیسیر فقال:" ذلك العرض"، و كقصة عدی بن حاتم فی الخیط الأبیض و الأسود، و غیر ذلك مما سأل عنه آحاد منهم. و نحن محتاجون إلی ما كانوا یحتاجون إلیه، و زیادة علی ذلك مما لم یحتاجوا إلیه من أحكام الظواهر؛ لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغیر تعلم، فنحن أشد الناس احتیاجا إلی التفسیر" .. ثم یقول:" و أما القرآن .. فتفسیره علی وجه القطع لا یعلم إلا أن یسمع من الرسول صلی اللّه علیه و سلم، و ذلك متعذر، إلا فی آیات قلائل، فالعلم بالمراد یستنبط بأمارات و دلائل" «1».
أما المغالطة الثانیة؛ فمؤداها: الدعوة إلی عزل الاستخدام اللغوی القرآنی عن المعهود من لغة العرب، و عن السنّة النبویة كذلك، و تبنی المعهود الغریب و الحدیث و نقله فی فهم القرآن الكریم «2».
و الجواب: لا یخفی أن القرآن الكریم بیان اللّه لمراده التشریعی، نزل بلسان عربی مبین- علی ما سبق- و لما كانت المعانی المودعة فی البیان القرآنی ذات
______________________________
(1) الإتقان فی علوم القرآن، ط. الحلبی، 2/ 174.
(2) انظر: العالمیة الإسلامیة الثانیة: جدلیة الغیب و الإنسان و الطبیعة، محمد أبو القاسم حاج حمد، 1/ 65.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 55
دقة و غور؛ كانت الحاجة فی تفسیره و استنباط الأحكام منه تحتاج إلی دقة و أناة كذلك، فلیس الأمر ضربة لازب، بل له قواعد و ضوابط و سبل، تستمد من حقیقة هذا الوحی و ما أودع فیه من مراد اللّه، و من خصائص اللسان الذی نزل به. و من ثمّ .. قرر أهل التفسیر و الأصول و اللغة أنه لا یجوز لأحد أن یفسر ذلك البیان من دون فقه ذلك اللسان العربی؛ لأن القرآن- كما قلنا- لم یخرج عن معهود العرب فی لغتهم من حیث الألفاظ المفردة، و الجمل المركبة، و قوانینها العامة.
و من ثمّ .. فتفسیر النص القرآنی بما لا یكون معهودا من لغته كذب. فمثلا:
لو فسرت" النجدین" فی قوله تعالی: أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَیْنَیْنِ وَ لِساناً وَ شَفَتَیْنِ وَ هَدَیْناهُ النَّجْدَیْنِ [سورة البلد: 8، 9، 10] بأن النجدین- كما یقول أحد أصحاب" القراءة المعاصرة"- أعضاء بمعنی الثدیین؛ فإنك تكون كذبت علی لغة العرب، و بالتالی علی القرآن الذی نزل علی لغة العرب، و یترتب علی ذلك القول بقصور أفهام العرب عن إدراك تامّ لمعانی القرآن أو عدم إدراكها بالمرة.
فتحمیل النص ما لا یحتمل من الدلالة اللغویة كذب فی بیان المراد الإلهی منه.
ثم إن تنزیل القرآن علی غیر معهود العرب سوف یجرد القرآن من الإعجاز من وجهه البیانی، و هو أهم وجوه الإعجاز، إن لم یكن هو الوجه الوحید.
و من العجیب أن صاحب هذه الدعوة یسقط البیان النبوی للقرآن الكریم، مع أن السنّة هی بیان القرآن بنص القرآن، و هی تأخذ حجیتها من إقرار القرآن للرسول صلی اللّه علیه و سلم، فالنبی صلی اللّه علیه و سلم لا یأمرنا و لا ینهانا إلا بالذی یأمرنا به اللّه عزّ و جلّ.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 56
و یترتب علی ذلك- أعنی إسقاط السّنة- التشكیك فی صحة التطبیقات المبنیة علی المفاهیم التی استفادها الصحابة الكرام، أو المسلمون عبر القرون من القرآن الكریم، كما أن هذا القول سیجعل القرآن قاموسا لنفسه دون حاجته إلی مرجعیة أخری فی فهمه- كالبیان النبوی- كما أنه سیجعل القرآن كذلك كتابا نظریّا تتحدد معانیه بمحدود طیّاته.
فإن قلت: إن لغة القرآن التی جاءت علی معهود العرب خاضعة فی ألفاظها و استعمالاتها لسنة التطور طالما هی متداولة فی التاریخ، و هذا یعنی تعرض ألفاظها للتحول إلی معان جدیدة لم تكن مقصودة فی زمن التنزیل.
قلت: نحن لا نغفل جوانب الاستفادة من ذلك التطور و استثماره فی الفهم، شریطة أن یختزن اللفظ العربی المعنی الذی یراد أخذه من اللفظ. فإذا كان اللفظ بحسب معناه اللغوی أو العرفی یتسع لذلك؛ فلا إشكال.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 57

(4) مناسبات النزول‌

القرآن الكریم هو الكلام العربی الذی سما- كما قلنا آنفا- إلی أعلی درجات البلاغة. و البلاغة: هی مطابقة الكلام لمقتضیات الأحوال. فلا بد لمعرفة معانی القرآن علی الحقیقة من معرفة هذه المقتضیات و المناسبات التی اقترن نزول الآیات بها.
فمناسبات النزول، بما أنها مقتضیات الأحوال التی نزل بعض آیات القرآن الكریم استجابة لها، تلقی ضوءا علی وجوه الإعجاز البیانی. فضلا عن أنها من عناصر الاسترشاد و الاستیضاح التی تعین علی فهم المراد من الآیة الكریمة. و من ثمّ .. قرر الشاطبی أن معرفة أسباب التنزیل لازمة لمن أراد علم القرآن، و الدلیل علی ذلك أمران:
أحدهما: أن علم المعانی و البیان (الذی یعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب) إنما مداره علی معرفة مقتضیات الأحوال حال الخطاب، من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجمیع؛ إذ الكلام الواحد یختلف فهمه بحسب حالین، و بحسب مخاطبین .. و غیر ذلك، فلفظ الاستفهام- مثلا- واحد، و لكنه یختلف إلی: حقیقی، و إنكاری، و توبیخی، و تعجبی. و لفظ الأمر واحد، و لكنه یختلف معناه إلی ما هو: للطلب، أو للتهدید، أو للإباحة.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 58
و لیست القرائن الدالة علی هذا كلها فی القرآن، بل أكثرها قرائن خارجیة مستوحاة من أسباب النزول، و مقتضیات الأحوال «1».
و توضیح هذا الذی یقوله الشاطبی یتجلی فی أن كلا من علم المعانی و البیان موضوعة مسائلهما للاقتدار علی معرفة معانی القرآن، و الاستشراف علی مقاصده، فضلا عن معرفة كلام العرب، و الوقوف علی أغراضها فی مخاطباتها.
و إنما كان علم المعانی و البیان بهذه المثابة؛ لأن فقه مسائلهما یدل علی الأسباب التی تجعل الكلام مطابقا لمقتضی الحال.
و مطابقة الكلام لمقتضی الحال هو" البلاغة". و من ثمّ .. فلا یفهم الكلام الذی یجی‌ء علی نهج البلاغة إلا بمعرفة الحال التی صدر كلام البلیغ قاصدا لمطابقتها، و ذلك .. أن الكلام یكون واحدا، ثم یختلف باختلاف الخطاب المستعمل فیه، و باختلاف المتكلم، و باختلاف السامع كذلك.
فمعرفة مقتضیات الأحوال أمر لا بدّ منه فی معرفة معانی القرآن العظیم المعجز، و إدراك مقاصده البعیدة. و ما أسباب النزول إلا إعلام بالحال و المناسبة التی نزلت فیها الآیات الكریمة، فهی كاشفة لمعانی القرآن، معینة علی بیان مقاصده، و صحة دلالته، و تفهّم أسرار بلاغته.
الأمر الثانی- و هو مبنی علی الأول: أن الجهل بأسباب النزول موقع فی الجهل بمعانی القرآن، و مؤدّ إلی الشّبه و الخلاف فی معناه «2».
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 347.
(2) الموافقات، 3/ 348.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 59
و یدل علی ذلك جملة وقائع ظهرت أثناء نظر الصحابة للقرآن، و إرادة فهمهم مجری خطابه. و من ذلك ما نقله الشاطبی أن مروان بن الحكم أشكل علیه قوله تعالی:
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ یَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ یُحِبُّونَ أَنْ یُحْمَدُوا بِما لَمْ یَفْعَلُوا [سورة آل عمران:
188]، فأرسل إلی ابن عباس یقول له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتی و یحب أن یحمد بما لم یفعل معذّبا؛ لنعذّبن أجمعون! فقال ابن عباس: ما لكم و لهذه الآیة؟! إنما دعا النبی صلی اللّه علیه و سلم یهود، فسألهم عن شی‌ء من التوراة فكتموه إیاه، و أخبروه بغیره، و فرحوا بما فعلوا، و أحبوا أن یحمدهم الرسول صلی اللّه علیه و سلم علی هذه الأخبار الكاذبة .. ثم قرأ قول اللّه تعالی: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِیثاقَ الَّذِینَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَیِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [سورة آل عمران: 187].
فهذا السبب یظهر أن المقصود من الآیة تعذیب المنافقین الكاتمین لأحكام اللّه، لا ما فهمه مروان بن الحكم.
و من ذلك: ما روی أن عمر بن الخطاب استعمل قدامة بن مظعون علی البحرین، فقدم الجارود یخبر عمر أن قدامة شرب فسكر، فقال له عمر: و من یشهد علی ذلك؟ فقال: أبو هریرة. فقال عمر: یا قدامة .. إنی جالدك. فقال:
و اللّه .. لو شربت- كما یقولون- لما كان لك أن تجلدنی. قال عمر: و لم؟!
قال: لأن اللّه یقول: لَیْسَ عَلَی الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِیما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنِینَ [سورة المائدة: 93] .. قال قدامة: فأنا من الذین آمنوا، و عملوا الصالحات، ثم اتقوا و آمنوا، ثم اتقوا و أحسنوا .. شهدت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم بدرا و أحدا و الخندق و المشاهد كلها. فقال عمر: أ لا تردون علیه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآیات أنزلن عذرا للماضین، و حجة علی
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 60
الباقین .. فعذر الماضین: أن اللّه أنزل هذه الآیات قبل أن تحرّم علیهم الخمر، و حجة علی الباقین: لأن اللّه یقول: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَیْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّیْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة: 90] .. ثم قرأ إلی آخر الآیة. قال ابن عباس: فإن كان من الذین آمنوا و عملوا الصالحات، ثم اتقوا و آمنوا، ثم اتقوا و أحسنوا؛ فإن اللّه قد نهی أن یشرب الخمر. فقال عمر: صدقت.
و سر الغلط- كما یقولون- أن قدامة بن مظعون غفل عن موضع نزول الآیة الأولی، و أنها كانت فیمن مات من الصحابة قبل نزول الآیة فی تحریم الخمر.
هكذا یقول الشاطبی فی" الموافقات" فی هذا الموضع، و سلمه له شارحه العالم الجلیل الشیخ عبد اللّه دراز، و كذلك غیرهما من الكاتبین فی علوم القرآن، قدیما و حدیثا.
غیر أن الأستاذ الجلیل الدكتور محمد سعاد جلال تعقبهم بأن" هذه المسألة لیست من قبیل الجهل بمعرفة السبب؛ لأن المراد بالسبب (الذی تنزل بعض الآیات جوابا علیه) إنما هو سبب محدد. أما هذه الواقعة؛ فلا یعدو الحال أن تكون الآیة الأولی نزلت فی تاریخ سابق عامة فی جمیع المؤمنین، و فی جمیع أجزاء الزمان الذی كانوا فیه، بحیث لو لم تنزل الآیة الثانیة لما أمكن القول بأن الآیة الأولی جاءت موضوعة علی سبب خاص. و إنما هذه الواقعة ترد إلی قاعدة العام، و تخصیص العام. ذلك .. أن كلمة" فیما طعموا" تنحلّ إلی كلمتین:" ما" الموصولة، و هی تفید العموم. و" طعموا" صلتها المفسّرة لمعناه. و معنی" طعموا":
تناولوا. و المعنی الكلی للجملة: لیس علی الذین آمنوا و عملوا الصالحات جناح فی أی شی‌ء تناولوه، و لو كان هو الخمر، لمن كان متصفا بالإیمان و التقوی
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 61
و الإحسان. فهذه قضیة عموم الآیة الذی استشهد قدامة به، و أجابه ابن عباس بأن هذا العموم لیس جاریا علی إطلاقه، و لكنه عموم دخله التخصیص بالآیة الثانیة، فكأنه قال: لیس علی الذین آمنوا و عملوا الصالحات جناح فیما طعموا ..
إلا إن كان خمرا؛ فاجتنبوه" «1».
هذا .. و من فوائد معرفة أسباب النزول: معرفة مقاصد الأحكام التی اشتملت علیها الآیات التی نزلت علی أسبابها، و وجه الحكمة فیها. و بذلك یدفع المفسر الشّبه عن القرآن الكریم، و یستطیع المجتهد استنباط علل الأحكام كما فی قوله: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكاری [سورة النساء: 43] .. فإن سبب النزول یبین أن الحكمة هی المنع من حصول التخلیط فی الصلاة، و التغییر فی القرآن.
و أخیرا .. فإن مما ینبغی التنبه له أن سبب النزول مجرد معین علی فهم الآیات القرآنیة التی نزلت علی أسباب، و لیس السبب منشئا للآیات، و لا هو العلة فی الإنزال أو التشریع.
فالوقائع مناسبات للنزول، و ظرف زمان نزلت فیه الآیة، فالعلاقة بین الواقعة و النص القرآنی لا تعدو علاقة الاقتران، و لا تدخل أبدا فی باب" العلة العقلیة" التی یلزم من وجودها وجود المعلول، و من انتفائها انتفاؤه.
أما قول بعض الحداثیین بأن: القرآن كله نزل علی أسباب، و هذه الأسباب أسباب تاریخیة منقضیة تجاوزها الواقع و التاریخ، و هی علة الحكم. و المعلولات- أی الأحكام القرآنیة- منقضیة بانقضاء العلل، و من ثمّ .. یقررون رفض إطلاق
______________________________
(1) مقدمة فی التعریف بعلم أصول الفقه و الفقه، للدكتور محمد سعاد جلال، ص 21.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 62
" التشریع القرآنی" و خلود أحكامه، و ذلك منذ طوی التاریخ صفحة أسباب النزول من الوجود ..
أقول: كل ذلك زور من القول قد استوفینا الرد علیه فی كتابنا:" أسباب النزول: تحدید مفاهیم، ورد شبهات".
كما أنبّه إلی أن الأصل فی الصیغ التی یفید ظاهرها العموم" التعمیم"؛ إذ ذلك هو المتبادر من الصیغة عند الإطلاق و التجرد عن القرینة، فما زلنا نعلم بالبداهة أن الصیغ العامة و المطلقة (عن قیود الزمان و المكان و الأحوال و الأشخاص) لا تصلح للدلالة علی أكثر من المعنی الذی وضعت له، و لا سلطان للعصور أو الظروف فی تغییر شی‌ء من قانون هذه الدلالة أو تضییق شی‌ء من عمومها.
فالأسباب- كما قلنا- تعین علی حسن تفهّم الآیات التی نزلت مقترنة بها، من غیر أن تكون ذات سلطان علی دلالته العامة، فتحدّها و تمنع امتدادها؛ إذ وظیفة السبب- كما قلنا- وظیفة كشف و إبانة عن حركة المعنی فی النظم، و هادیة لمسالك الفهم، و لیست مانعة طلاقة المعنی، و شمول سلطانه علی ما یستحدث.
فالقول بحصر الدلالة فیما جاءت به أسباب النزول وأد لدلالة النص، و هی دعوی یتسلل منها إلی بیان أن نصوص القرآن لا تتجاوز دلالتها زمن الوحی. و هذا ما نبّه إلیه الأصولیون و علماء القرآن من أن" العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" .. فاحذر ما یقوله ملاحدة هذا العصر، عبید یهود، من أن ارتباط الآیات بأسباب نزولها یرفع عنا التكلیف بما فیها.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 63
فإن قیل: بل الخلاف قائم فی هذه القاعدة .. فإن من علماء الأصول من قال بأن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.
و عند هذا أقول: هیا بنا نلق الضوء علی هذه القاعدة مبینین وجه الحق فی هذه المسألة الأصولیة، و هی أن اللفظ الوارد علی سبب: هل یكون حكمه علی قدر ذلك السبب؟
و فی الجواب عن هذا السؤال یقول الأصولیون: إن ذلك اللفظ المذكور، إما أن یكون قضیة تامة مستقلة بنفسها بحیث یمكن الابتداء بها لو لم یوجد سبب، و إما أن یكون عبارة تابعة للسبب غیر مستقلة بنفسها، كنعم أو لا.
فأما غیر المستقل؛ فلا خلاف فی أن حكمه علی وفق سببه .. إن عامّا؛ فعام، و إن خاصّا فخاص. و مثاله أن یسأل سائل: أ یحل الوضوء بماء البحر؟
فیقال:" نعم". فهذا حكم یعم السائل و غیره؛ لأن السؤال كان عامّا و قد جاء علی وفقه. و إن قال السائل: أ یحل لی الوضوء بماء البحر؟، فقیل له:" نعم"؛ فهذا حكم خاص یخص السائل بصیغته؛ لأن السؤال كان كذلك، و إن تعداه إلی غیره من المكلفین؛ فإنما یتعدی بالقیاس أو بنص آخر من النصوص الدالة علی أن أحكام الشریعة أصلها العموم ما لم یقم دلیل التخصیص.
و أما المستقل .. فإن كانت صیغته خاصة؛ فالحكم خاص حتی و لو كان السبب عامّا،، كأن یسأل سائل: أ یحل الوضوء بماء البحر؟ فیجاب:" یحل لك الوضوء بماء البحر".
و إن كانت صیغته عامة .. فهل یعم حكمها حتی و لو كان السبب خاصّا؟
مثاله أنه- علیه الصلاة و السلام- سئل عن بئر بضاعة التی كانت تلقی فیها
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 64
الخرق، فقال:" خلق اللّه الماء طهورا لا ینجسه شی‌ء"، و أنه مر بشاة میتة فقال:
" أیما إهاب دبغ؛ فقد طهر" .. فهل العبرة فی هذا و أمثاله بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ هذا هو قطع المسألة فی الأصول.
و قد فرضوا فی هذا الشق الأخیر خلافا بین الجمهور القائلین باعتبار عموم اللفظ، و بین الشافعی القائل- فیما زعموا- باعتبار خصوص السبب «1».
و الواقع كما یقول الأستاذ المحقق الشیخ عبد اللّه دراز أنه لم یصح عن الشافعی، و لا عن أحد من الأئمة، القول بقصر العمومات علی أشخاص أسبابها. و إن روی ذلك عن بعض أصحاب الشافعی؛ فلعله لم یثبت عنهم أیضا.
فقد نص الشافعی فی" الأم" علی أن السبب لا یصنع شیئا، إنما تصنعه الألفاظ ..
فهذا صریح فی موافقة الشافعی للجمهور. علی أننا إذا رجعنا إلی أنفسنا و سمعنا سؤالا خاصّا یقابله جواب عام، و نظرنا فی حكمة هذا التفاوت بین السؤال و الجواب؛ فإننا ندرك علی البدیهة المغزی الذی یقصده المجیب من تعبیره باللفظ العام فی هذا المقام، و هو أنه أراد تعدیة حكمه إلی أفراد أخری غیر شخص السبب. و إلا .. فلما ذا عدل عن صیغة الخصوص، و هی تقضی ظاهر الحال و مطلوب السائل، مع قربها و اختصارها، إلی هذه العبارة الكلیة و إلی هذا التطویل بغیر طائل؟!
______________________________
(1) الإحكام للآمدی، 2/ 347، و شرح العضد، 2/ 11، و كتابنا أسباب النزول، ص 61 و ما بعدها.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 65
و لو افترضنا العبارتین سواء فی كلام عامة الناس؛ فكیف یكونان سواء فی البلاغة القرآنیة و الفصاحة النبویة؟! لست أدری كیف یختلف فی هذا أحد من أهل العربیة، فضلا عن إمام كالشافعی؟!
هكذا یتفق الكل علی أن النص العام الوارد علی سبب لا یجوز الوقوف به عند أخص الخاص- و هو شخص سببه- بل یجب تعمیمه البتة إلی نوع ذلك السبب، بحیث إذا دل دلیل علی إخراج بعض ذلك العام عن قصد المتكلم؛ فلا یكون ذلك البعض هو شخص السبب و لا نوعه القریب. فالشافعی و إن عمد إلی بعض العمومات الواردة علی سبب، فخصصها مراعاة لأسبابها، لم یقل بحصرها فی الحادثة العینیة أو الشخص المعین الذی وردت فیه حتی تتوجه علیه الحجة بإجماع الأئمة علی تعدیة الأحكام لغیر أسبابها. فهو مثلا فی حدیث" الماء طهور" لم یقصره علی ماء تلك البئر التی سیق الحدیث من أجلها، و لم یجعله قاصرا علی ماء الآبار، بل جعله عامّا فی كل ماء كثیر، و استثنی منه الماء الیسیر.
و كذلك فعل فی حدیث" أیما إهاب دبغ فقد طهر" .. لم یجعله خاصّا بجلد شاة میمونة، و لا بنوع جلود الأغنام، و إنما استثنی منه جلد الكلب و نحوه.
بل نقول: إن الكل متفقون أیضا علی الطرف الآخر من المسألة. إنهم متفقون علی أن النص العام الوارد علی سبب لا یجب الذهاب به دائما إلی أعم معانیه، حتی التی لا تشبه السبب فی مناط حكمه، و هذا أبو حنیفة (و هو فی مقدمة القائلین باعتبار عموم اللفظ) قد عمد إلی حدیث:" الولد للفراش"، فلم یجعله عامّا كلّ فراش، بل جعله خاصّا بالزوجة و أم الولد، و ما ذلك إلا أنه راعی سبب الحدیث و هو ولیدة زمعة- أی أم ولده- فعدی حكمه إلی كل
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 66
ولیدة، و إلی الزوجة بالأولی، و أخرج عنه الأمة التی لم یثبت لها أمومة الولد؛ لضعف معنی الفراش فیها، و إذا كان بعض الأئمة ذهب إلی طهوریة كل ماء لم یتغیر، و طهارة كل جلد دبغ، و أنهم یوجبون حمل عمومات الشارع كلها علی أوسع معانیها الوضعیة من غیر نظر إلی مساقاتها؛ فذلك ما لا قائل به من أهل السنة، و إنما المعنی أنهم یوجبون تعدیة الحكم إلی مرتبة من مراتب العموم یظنّ قصد الشارع إلیها، قریبة أو بعیدة أو متوسطة.
و هذا قدر متفق علیه فی الجملة. ففیم الخلاف إذن؟! هل إذا جاء المجتهدون لتطبیق هذه القاعدة، فاختلفت أنظارهم فی تحری مراتب العموم أیها أنسب بفرع فرع، یعد ذلك اختلافا فی أصل القاعدة كما صوره الأصولیون؟ أكبر الظن أن غلبة شهوة الجدل هی السبب فی تصویرها قاعدة خلافیة!
قلنا: إن اللفظ العام الوارد علی سبب خاص لا یخلو من جهة عموم قطعا.
ثم قلنا: إن لهذا العموم مراتب متفاوتة یجتهد الناظر فی اختیار أیها أنسب بموضع دون موضع.
فهل هناك ضابط یضبط هذه المراتب و یبین طریقة تنزیل النصوص القرآنیة علیها حسبما فهمه العرب؟
لقد وقفنا علی تحقیق نفیس فی هذا المقام بسطه الشاطبی- رحمه اللّه- فی فصل العموم و الخصوص، و نحن نكتفی هنا بعرض خلاصته، و هی أن مراتب العموم ثلاثة:
المرتبة الأولی: مرتبة العموم الوضعی، و هو استغراق ما یدل علیه اللفظ بحسب أصله الإفرادی و حقیقته اللغویة. و هذه هی أوسع المراتب و أعمها.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 67
المرتبة الثانیة: مرتبة العموم فی الاستعمال اللغوی، و هو استغراق ما یدل علیه الكلام بحسب عرف التخاطب عند العرب، و ما یغلب قصدهم إلیه فی محاوراتهم، حتی صار فیه كأنه حقیقة عرفیة عامة.
المرتبة الثالثة: مرتبة العموم فی الاستعمال الشرعی، و هو استغراق ما یدل علیه الكلام بحسب ما عرف من مقاصد الشارع و قواعده، حتی صار كأنه فیه حقیقة عرفیة خاصة" حقیقة شرعیة".
و طریقة تنزیل النصوص علی هذه المراتب ألا ینتقل بها عن مرتبة من العموم إلی مرتبة أوسع منها إلا حیث لا یوجد داع للوقوف عند تلك المرتبة الدنیا.
فینبغی فی كل موضع أن ینظر إلی النص: هل للشارع فیه عرف خاص یحد من عمومه و یضیق من دائرته؟ فإن كان؛ وجب تنزیل النص علی قدر تلك المرتبة، و من جاوزها إلی ما وراءها؛ فقد زاد فی الشرع ما لیس منه. و إن لم یكن للشارع عرف خاص؛ وجب أن ینظر مرة أخری: هل جری عرف العرب فی محاوراتها بحمل ذلك النص علی وجه لا یستوعب كل حقیقة؟ فإن وجد؛ فلیقتصر علیه دون زیادة و لا مجاوزة. و أما إذا لم یكن عرف خاص شرعی، و لا عرف عام لغوی؛ فیفسّر النص ببعض متناولاته، فإنه یجب أن یرجع به إلی أصل وضع اللغة، فتؤخذ القضیة فیه بأوسع معانی العموم التی تقبلها صیغتها. و من وقف بالعموم حینئذ دون غایته؛ فقد نقص من الشرع ما هو فیه.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 68
و هذا الترتیب، و إن كان متفقا علیه فی الجملة، إلا أن العلماء قد یختلفون فی المرتبة اللائقة بنصّ، بناء علی أن بعضهم قد یفهم فی الاستعمال أو الشرعی من القرائن المخصصة ما لا یفهمه غیره، فیأخذ هذا بالخصوص و ذاك بالعموم.
و لنمثل لكل مرتبة من هذه المراتب بمثال یوضحها ..
- فمثال ما تأخذه العرب بالعموم الوضعی قولنا:" كل شی‌ء ما خلا اللّه باطل".
- و مثال ما جری للعرب فیه عرف عام یقصر به دون غایته الوضعیة قولك:" من دخل داری أكرمته"، و قولك:" رأیت الناس .. فما رأیت أكرم من زید". فلفظ" من" فی المثال الأول یعم كل عاقل، و هو متناول- بحسب الوضع- شخص المتكلم و غیره، و لكن المتكلم لا یرید دخوله فی هذا الحكم فیما عرف من استعمال العرب.
قال ابن خروف: لو حلف رجل بالطلاق و العتق لیضربن جمیع من فی الدار و هو معهم فیها، فضربهم و لم یضرب نفسه؛ برّ و لم یلزمه شی‌ء. قال: فكذلك لا یدخل شی‌ء من صفات الباری تحت الإخبار فی قوله تعالی: خالِقُ كُلِّ شَیْ‌ءٍ [سورة غافر: 62]، لأن العرب لا تقصد ذلك و لا تنویه. قال: و مثله وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَیْ‌ءٍ عَلِیمٌ [سورة البقرة: 282]، و إن كان عالما بنفسه و صفاته، لكن الإخبار إنما وقع عن جمیع المحدثات، و علمه بنفسه و صفاته شی‌ء آخر. قال:
و هذا معلوم من لسان العرب .. لذلك لا یصح استثناء هذه الأشیاء بحسب
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 69
اللسان، فلا یقال: من دخل أكرمته إلا نفسی. و إنما ینبغی استثناء شی‌ء یتوهم دخوله لو لم یستثن.
و كذلك نقول: إن لفظ" الناس" فی المثال الثانی یعم كل من لقیت و من لم تلق، و لیس ذلك بمراد، و إنما یراد ما شأنه أن یتناوله الحكم المذكور عادة. و من هنا كان قوله تعالی: تُدَمِّرُ كُلَّ شَیْ‌ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [سورة الأحقاف: 25]، لیس مقصودا به أنها تدمر السموات و الأرض و الجبال، و إنما قصد ما شأنه أن تؤثر فیه الریح عادة كالحیوان و الزرع، و لذلك قال بعدها: فَأَصْبَحُوا لا یُری إِلَّا مَساكِنُهُمْ [سورة الأحقاف: 25].
قال الإمام الغزالی فی قوله صلی اللّه علیه و سلم:" أیما إهاب دبغ فقد طهر": إنه لا یبعد أن یكون التعرض للدباغ نفسه مخرجا لجلود الكلاب و نحوها، بحیث لا تخطر بذهن المتكلم و لا السامع، و قد قال طائفة من أهل الأصول: إن ما لا یخطر ببال المتكلم إلا بالإخطار لا یحمل لفظه علیه عند التعمیم.
- و مثال ما جری فیه للشارع عرف خاص یقف به دون الأوضاع و الاستعمالات اللغویة: ما ورد من عمومات الوعید علی الذنوب التی هی بمفردها دون الشرك، و لكنها فی الأصل من مساوئ أعمال الكفار، و قبائح صفاتهم، فلما توعّد فاعلوها؛ لم یستثن منهم أحد اتّكالا علی ما عرف من كلیات الشرع القطعیة أن كل ذنب دون الشرك لا بأس من مغفرته، كقوله تعالی خالِدِینَ فِیها أَبَداً [سورة التغابن: 9]، و نحوها. فمن لم یعرف معهود الشارع و مقاصده حمل تلك العمومات علی ظاهرها فی المؤمنین و غیرهم، و من
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 70
هنا توقف مروان بن الحكم فی قوله تعالی: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ یَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ یُحِبُّونَ أَنْ یُحْمَدُوا بِما لَمْ یَفْعَلُوا [سورة آل عمران: 188]، حتی سأل ابن عباس فقال له: ما لكم و لهذه الآیة؟! .. إلی آخر القصة. و كذلك توقف الصحابة فی آیة الأنعام: الَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یَلْبِسُوا إِیمانَهُمْ بِظُلْمٍ [سورة الأنعام: 82] حتی فسرها لهم النبی صلی اللّه علیه و سلم بأن" الظلم" هنا" الشرك". حتی إن الشاطبی نفسه أورد علی هذا الترتیب إشكالا قویّا بما عرف عن السلف الصالح من أخذ العمومات علی معنی أوسع من معهود اللسان و الشریعة جمیعا، و هم العارفون بلسان العرب، الواقفون علی قواعد الشرع و مقاصده، و ضرب لذلك أمثلة ..
منها أن عمر بن الخطاب كان یتخذ الخشن من الطعام، فقیل له: لو اتخذت طعاما ألین من هذا! فقال: أخشی أن تعجل طیباتی .. یقول اللّه تعالی أَذْهَبْتُمْ طَیِّباتِكُمْ فِی حَیاتِكُمُ الدُّنْیا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها [سورة الأحقاف: 20]. و قال لبعض أصحابه و قد توسع فی الإنفاق شیئا: أین تذهب بكم هذه الآیة أَذْهَبْتُمْ طَیِّباتِكُمْ، إلخ. ذلك مع أن الخطاب فی الآیة صریح فی أنه موجه للكفار، حیث یقول: وَ یَوْمَ یُعْرَضُ الَّذِینَ كَفَرُوا عَلَی النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَیِّباتِكُمْ، و ختام الآیة لا یلیق- بحسب قواعد الشرع- إلا بالكفار، حیث یقول:
فَالْیَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 71
و منها: أن معاویة رضی اللّه عنه لما سمع حدیث المنفق ماله ریاء، و المستشهد فی الجهاد ریاء، و معلم الخیر ریاء، و أنهم هم أول من تسعّر بهم النار یوم القیامة؛ قال: صدق اللّه و رسوله .. مَنْ كانَ یُرِیدُ الْحَیاةَ الدُّنْیا وَ زِینَتَها نُوَفِّ إِلَیْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِیها [سورة هود: 15]. فحمل القضیة علی عمومها حتی للمسلمین، مع مخالفة ذلك للقواعد الشرعیة.
و منها: أن الصحابة لما نزل وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِی أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ یُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [سورة البقرة: 285] لم یقفوا بها عند نوع سببها من إبداء الشهادة و كتمانها، و لا عند جنسها القریب من إعلان الغرائم و إخفائها، بل حملوها علی العموم (كل ما تحدثت به النفس مما یطاق، و مما لا یطاق)، و لذلك انزعجوا منها انزعاجا شدیدا، مع أن من القواعد الكلیة قوله تعالی: وَ ما جَعَلَ عَلَیْكُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج: 87]. و قد أقرّهم النبی صلی اللّه علیه و سلم علی ذلك حتی نزل قوله تعالی: لا یُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [سورة البقرة: 286].
و منها: أن عامة العلماء استدلوا بآیة: وَ یَتَّبِعْ غَیْرَ سَبِیلِ الْمُؤْمِنِینَ [سورة النساء: 115] علی أن الإجماع حجة و أن مخالفه عاص، مع أنها نازلة فی المرتد عن دین الإسلام، و صدرها یدل علی أنها فی الكفار، لقوله: وَ مَنْ یُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُ الْهُدی ....
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 72
و الجواب عن ذلك إجمالا: أن السلف- رضوان اللّه علیهم- لم یأخذوا هذه المعانی مأخذ المنصوص علیه الداخل تحت العمومات، بل فهموا- فهم الراسخین فی العلم- أن ما لم یذكر من الآیة مشترك مع المذكور فیها فی وصف ما، فأجروها فیما لم تنزل فیه و لم یقصد منها، اعتبارا للشی‌ء بما یجامعه أو یقاربه.
ذلك .. أن اللّه تعالی إنما ذكر الكفار فی القرآن بأسوإ أعمالهم، و المؤمنین بأحسن أعمالهم لیعتبر أولو الأبصار و لیجتهدوا فی الفرار من مثل أعمال المسیئین، و فی اللحاق بدرجات المحسنین، سیرا علی قدمی الخوف و الرجاء .. غیر آمنین من مكر اللّه و لا یائسین من رحمته، و هذا هو معنی قول العلماء: إن كل آیة وردت فی حق الكفار فإنها تجرّ بذیلها علی عصاة المؤمنین .. فما أدقّ هذا التعبیر! حیث قالوا" تجر بذیلها" و لم یقولوا: تطبق بنصها، و ذلك لأن العقوبات فیها لا تنطبق بنصها علی المؤمنین كما هی، و إنما یصیب العاصی طرف منها إن لم یعف اللّه عنه.
و إلی هذا المعنی- و اللّه أعلم- كان قصد ابن عباس فی إجابته مروان، حیث قال له: ما لك و لهذه الآیة؟! ... إلخ. كأنه یرید أن ما فیها من القطع بالعذاب و الیأس من النجاة خاص بأهلها و من یشبههم من الذین یفترون علی اللّه الكذب و یكذبون بآیاته. و هذا لا ینافی أن غیرهم ممن ألمّ بذنوبهم قد یصیبه العذاب أیضا، لكن إلی أجل محدود، و إلی مفازة فی النهایة «1».
______________________________
(1) انظر: الموافقات، و حصاد قلم، د. محمد عبد اللّه دراز، ص 90.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 73

(5) معرفة الظاهر و الباطن من معانی القرآن الكریم‌

اشارة

بدایة .. فإن حصیلة ما ذكرناه من قبل أن القرآن الكریم نزل بلغة العرب، و علی معهودهم فی الخطاب. و علیه .. فإنه لا بدّ أن یسلك فی فهمه و استنباط معانیه مسلك العرب فی فهمهم و استنباطهم. و من عادة العرب وجوب العمل بما تقضی به دلالة اللّفظ المتبادرة منه، أخذا بحكم العمل بما هو مترجح فی القلب: من كون الأصل هو بقاء اللفظ علی معناه المعین بإزائه. و من إیجاب حكم العلم: الأخذ بالراجح ما لم تقم قرینة صارفة إلی خلافه.
و بناء علی ذلك فإنه یجب العمل بما یدل علیه ظاهر كل لفظ؛ لأنه حجة لظهور تبادره منه لغة، ما لم تصرف أدلة أو قرائن معتبرة عن ذلك الظاهر، و ذلك لما أنّ فی العدول عن الظاهر- مع إمكانه- طرحا للدلیل لغیر شی‌ء.
و الشاطبی فی حدیث له عن القرآن یعرض لقضیة أن للقرآن ظاهرا و باطنا فیفسرها و یناقشها. إلا أننا قبل أن نذكر نص كلامه نحرر محل النزاع فی هذه المسألة الخطرة.
ذهبت طوائف من الناس إلی أن للقرآن معنی باطنا یحملون لفظ القرآن علیه. أما أن یكون للقرآن معان ظاهرة؛ فهذا ما لا یختلف فیه أحد من أهل العلم. و أما أن یكون للقرآن معان باطنة؛ فهو ما وقع فیه الخلاف .. لكن لا من جهة أن یكون للقرآن معان باطنة، فهذا أیضا محل اتفاق بین أهل الحق .. و لكن خلافهم كان فی تعیین ما هو المعنی الباطن الذی یصار إلیه.
هذا هو تشخیص المسألة. و لنبدأ الآن فی ذكر ما یقوله الشاطبی:
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 74
" من الناس من زعم أن فی معانی القرآن ما هو ظاهر و ما هو باطن، و ربما نقلوا فی ذلك عن الحسن حدیثا مرسلا یقول:" إن للقرآن ظهرا و بطنا- أی- ظاهرا و باطنا-، و كل حرف حدّ، و كل حدّ مطلع". و فسّر بأن الظاهر: هو ظاهر التلاوة، و الباطن: هو الفهم عن اللّه لمراده؛ لأن اللّه یقول: فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا یَكادُونَ یَفْقَهُونَ حَدِیثاً [سورة النساء: 78]، و المعنی: لا یفهمون عن اللّه مراده من الخطاب، و لم یرد أنهم لا یفهمون نفس الكلام .. كیف و هو منزّل بلسانهم؟! و لكنهم لم یحظوا بفهم مراد اللّه من الكلام .. و قال تعالی: أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً كَثِیراً [سورة النساء: 82].
فظاهر المعنی شی‌ء" و هم عارفون به؛ لأنهم عرب"، و المراد شی‌ء آخر" و هو الذی لا شك فیه أنه من عند اللّه". و إذا حصل التدبر؛ لم یوجد فی القرآن اختلاف البتة، فهذا الوجه" الذی من جهته یفهم الاتفاق، و ینزاح الاختلاف" هو الباطن المشار إلیه. فالتدبر إنما یكون لمن التفت إلی المقاصد".
" و حاصل هذا الكلام: أن المراد ب" الظاهر" هو المفهوم العربی، و ب" الباطن" مراد اللّه تعالی من كلامه و خطابه. فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فسّر؛ فصحیح، و لا نزاع فیه، و إن أرادوا غیر ذلك؛ فهو إثبات أمر زائد علی ما كان معلوما عند الصحابة و من بعدهم. فلا بد من دلیل قطعی یثبت هذه الدعوی؛ لأنها أصل یحكم به علی تفسیر الكتاب، فلا یكون ظنیّا. و ما استدل به إنما غایته- إذا صح سنده- أن ینتظم فی سلك المراسیل. و إذا تقرر هذا؛
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 75
فلیرجع إلی بیانهما- أی الظاهر و الباطن- علی التفسیر المذكور- أی الذی ارتضینا-" «1».
ثم ینتقل الشاطبی، فیعقد فصلا لتقریر أن كل ما كان من المعانی العربیة التی لا ینبنی فهم القرآن إلا علیها فهو داخل تحت الظاهر .. فالمسائل البیانیة، و المنازع البلاغیة لا معدل بها عن ظاهر القرآن «2».
ثم قال:" و كل ما كان من المعانی التی تقتضی تحقیق المخاطب بوصف العبودیة و الإقرار للّه بالربوبیة؛ فذلك هو" الباطن" المراد، و المقصود الذی أنزل القرآن لأجله" «3».
و لنبدأ الآن فی ذكر وصف المعانی الظاهرة أولا، و طرقا من طرق استفادتها من القرآن، ثم نعقّب علی ذكرها بذكر المعانی الخفیة المعتبرة، و طرق استفادتها من القرآن أیضا.
لكن قبل وصف المعانی الظاهرة، و طرق استفادتها، أقول:
إن الألفاظ العربیة وضعت للدلالة علی إفادة المعانی الموضوعة لها وضعا إفرادیّا، كالألفاظ الدالة علی معانیها بطریق الحقیقة، أو وضعا نوعیّا بطریق المجاز. كذلك .. وضعت الجمل العربیة فی صور مختلفة، تحتمل كل صورة منها بعض المعانی البلاغیة الزائدة علی المعنی الوضعی لكل لفظ بانفراده، كإفادة الحصر فی قوله تعالی: إِیَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ [سورة الفاتحة: 5]،
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 383، 384.
(2) الموافقات، 3/ 386.
(3) الموافقات، 3/ 388.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 76
و إظهار العنایة بتقدیم الموضوع" المبتدأ، المسند إلیه" فی قوله تعالی: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [سورة الفتح: 29] .. علی ما سبق بیانه فی المعانی الأصلیة و الثانویة.
و من ذلك فی القرآن: الاختلافات فی صور الألفاظ الوضعیة، التی تدل من المعانی الأصلیة، علی ما یشبه المعانی الزائدة فی اختلاف صور الجمل المركبة .. من ذلك قوله تعالی: فَمَنْ یُرِدِ اللَّهُ أَنْ یَهْدِیَهُ یَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ یُرِدْ أَنْ یُضِلَّهُ یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما یَصَّعَّدُ فِی السَّماءِ [سورة الأنعام: 125].
و الشاهد فی قوله" ضیقا حرجا" إذا قورن بقوله تعالی: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما یُوحی إِلَیْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [سورة هود: 12]، و موضع الشاهد:" و ضائق به صدرك" .. فما هو الفرق بین استعمال" ضیق" فی الآیة الأولی، و استعمال" ضائق" فی الآیة الثانیة؟
یعلق الأستاذ الجلیل الدكتور محمد سعاد جلال علی هذا الموضع بقوله:" إن" ضیق" صفة مشبّهة، تدل علی ثبوت معناها فی نفس القائمة به، و استعمالها فی موضعها- هنا- موضع البلاغة؛ لأن المقصود هو الكشف عن الضیق الشدید المعربد فی نفس من أضله اللّه بخذلان نفسه له، فانصرف عن الدخول فی الإسلام منصرفا إلی عبادة الأصنام التی لا یجد منها ولایة و لا سكینة.
أما" ضائق" .. فهو صیغة اسم فاعل، یدل علی قیام معناه بالموصوف به، من غیر ثبات و لا استمرار، و هو موضع البلاغة فی موضعه أیضا؛ لأن المقصود:
أن تضایق نفس النبی من عناد المشركین و كیدهم حال طارئة، لا تلبث أن
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 77
تعرض له- بحكم الطّبع البشری- حتی تزول عنه؛ لأن رغبته فی إنجاز الرسالة و إبلاغ الدعوة أقوی باعثا فی نفسه من كل شی‌ء" «1».
هذه إشارة لما یدل علیه اختلاف الصیغ الوضعیة الإفرادیة من زیادة المعانی.
و أما أثر اختلاف صور الجملة، و ما نشأ عنه من المعانی الثانویة- و هو اصطلاح الشاطبی كما سبق- التی هی مناط البلاغة و أساس الإعجاز اللغوی ..
فالقرآن مشحون من أوله لآخره بهذا العلم. من ذلك قوله تعالی: وَ الَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَیْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ یُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلی هُدیً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة: 3، 4]، ثم قال- و هو موضع الشاهد-: إِنَّ الَّذِینَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَیْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ [سورة البقرة: 6] بغیر عطف. ثم نقارن: نظم هذه الآیة بآیة سورة لقمان: أُولئِكَ عَلی هُدیً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة لقمان: 5]، ثم قال- و هو موضع الشاهد-: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَنْ سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ [سورة لقمان: 6] معطوفة بالواو .. فما سر الفرق بین موضع عدم العطف بالواو فی سورة البقرة، و بین ذكره فی آیة سورة لقمان؟
و الجواب- كما قال الأستاذ المحقق الشیخ عبد اللّه دراز: إن المقصود فی الأساس فی سورة" البقرة" هو بیان حال الكتاب، تقریرا لكونه یقینا لا شك فیه، و فی ضمن هذا البیان ذكر اتصاف الكفار بالإصرار علی الكفر و الضلال، بحیث لا یجدی فیهم الإنذار، و لا یستفیدون من الكتاب. فالآیة تكمیل لما قبلها، كأنها جزء منها، و لا
______________________________
(1) مقدمة فی علم أصول الفقه، ص 36.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 78
یحسن العطف بین أجزاء الشی‌ء الواحد .. فكان مقتضی البلاغة ترك العطف فی هذا الموضع. أما بالنسبة لآیة سورة لقمان؛ فالمقصود منها مع سابقتها أن الناس علی قسمین:" مهتد هاد" .. و هم الموصوفون بالهدی و الفلاح، و" ضالّ مضلّ" .. و هم المشترون لهو الحدیث للإضلال عن سبیل اللّه. و بین القسمین- كما تری- تضادّ ملحوظ .. فكانت صحة المناسبة أن یفصل بینهما بواو العطف «1».
و من ذلك: الفرق بین قوله تعالی فی سورة الشعراء: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِینَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [سورة الشعراء: 153، 154]، و بین الآیة الأخری من نفس السورة: قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِینَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [سورة الشعراء:
185، 186] .. فالآیة الأولی بدون ذكر الواو" ما أنت"، و الثانیة بالواو" و ما أنت" ..
فما الفرق؟
و الجواب: أما حیث ذكر العطف؛ فالدلالة علی أن كلا من التسحیر و البشریة مناف للرسالة، فكلّ منهما زعم مستقل، فیناسب هذا الإیراد؛ أعنی إیراد العطف بین الأمرین. و أما فی آیة" ما أنت"؛ فذلك لأنهم اعتبروا التسحیر هو وحده المنافی للرسالة، و أكدوه بالبشریة، و لا یصح العطف بین هذا و هذا «2».
و من ذلك أیضا قوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّیْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف: 201] فیسأل عن الفرق من الاستعمال بین: إیثار التذكر بصیغة الفعل الماضی" تذكروا"، و الإتیان
______________________________
(1) من تعلیق الشیخ عبد اللّه دراز، بتصرف، ص 386.
(2) انظر تعلیقه أیضا، 3/ 387.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 79
ب" مبصرون" علی مثال اسم الفاعل بدلا من الفعل المضارع" یبصرون"؟ و قد كان الاستعمال خلیقا أن یجی‌ء علی مقتضی المشاكلة مع قوله" تذكروا" ..
و الجواب: أن التّذكّر یحدث بعد مسّ الشیطان، و یتجدد بتجدد هذا المس، و ذلك بخلاف الإبصار" بالحق" .. فإنه ثابت لهم، قائم بهم؛ لأن اسم الفاعل حقیقة فیمن قام به الفعل، و قد یغطیه مس الشیطان، فتجدّد التذكر یكشف لهم هذا الغطاء، لیتجلی لهم الحق- الذی عهدوه- قائما بنفوسهم. أی یفاجئهم قیام عمل البصیرة بهم دفعة .. بخلاف التذكر «1». فكأنما الإبصار بالحق مصباح كهربائی مضی‌ء، قائم فی قلوب المتقین، بینه و بین مس الشیطان حجاب من الغفلة. و كأنما التذكر أداة ترفع هذا الحجاب عنهم كلما حدث مسّ من الشیطان لهم، فینطلق عندئذ نور الإبصار بالحق دفعة علی مس الشیطان فیمحوه دفعة.
و منه قوله تعالی: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَیِّئَةٌ یَطَّیَّرُوا بِمُوسی وَ مَنْ مَعَهُ [سورة الأعراف: 131] .. فیقال: لما ذا صدّر" الحسنة" بلفظ" إذا" و جاء بلفظها معرّفا، و قد صدّر" السیئة" بلفظة" إن" و جاء بلفظها منكرا؟
و الجواب: أن الحسنات من: الخصب، و الرخاء، و العافیة هی العطاء الأكثر فی العالم، و أن السیئات- و هی كما تطلق علی المعاصی تطلق علی المضارّ، كالجدب و الشدة و المرض- هی الأمر الأقل- بالنسبة للحسنات- حدوثا فی العالم. و لما كان لفظ" إذا" یدل علی تحقق معنی المذكور بعده، و لفظ" أل" یدل
______________________________
(1) المرجع السابق، 3/ 387.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 80
علی عموم المذكور بعده .. كما أن لفظ" إن" یدل علی الشك فی وجود المذكور بعده، و تنكیر اللفظ یدل علی التقلیل من المعنی فی بعض الوجوه؛ فقد بان لك وجه المناسبة فی استحقاق الحسنة بلفظ" إذا"، و إدخال لفظ التعریف علیها فی الاستعمال.
و هكذا تجد فی القرآن فیضا من هذه الشواهد الفاحصة عن مدلولات الأسالیب العربیة و أسرارها، و من ثمّ .. فكل معنی ینبنی علیه فهم القرآن، و یرجع إلی المدلولات اللغویة الوضعیة و المنازع البیانیة و البلاغیة، و یكون جاریا علی وفق القواعد و الشواهد العربیة؛ فهو المعنی الظاهر الذی یعنیه الشاطبی و غیره و یعوّل من هذه الجهة علیه.
" أما المعنی الخفی؛ فیفسّر بأنه المعنی المراد للّه من خطابه فیما یكون أبعد مرمی من مجرد دلالات الألفاظ علی معانیها. و ذلك بطریقین:
أحدهما: إعمال الذهن مع نفاذ البصیرة، و وفور الملكة اللغویة فی فهم النص القرآنی.
و ثانیها: الاستعانة- إلی جانب ذلك- بالربط بین النصوص المتعلقة بالموضوع الواحد" «1».
و لنعرض فی هذا الصدد واقعتین ذكرهما الشاطبی:
أولاهما: ما روی عن ابن عباس قال:" كان عمر رضی اللّه عنه یدخلنی مع أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم" فقال له عبد الرحمن بن عوف:" أ تدخله و لنا بنون مثله؟!". فقال له عمر:" إنه من حیث تعلم"- أی إنه من حیث تعلم مكانته الكبیرة فی العلم
______________________________
(1) مقدمة فی علم أصول الفقه، ص 39.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 81
یستحق ذلك- قال ابن عباس: ثم سألنی عمر عن قوله تعالی: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ وَ رَأَیْتَ النَّاسَ یَدْخُلُونَ فِی دِینِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [سورة النصر: 1- 3]. فقلت: إنما هو أجل رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم أعلمه إیاه". فقال عمر:" و اللّه .. ما أعلم منها إلا ما تعلم".
فالمعنی الظاهر من دلالة الألفاظ لهذه السورة لا یفید إلا بیان نعمة اللّه علی النبی صلی اللّه علیه و سلم بسوق الفتح و النصر له، و دخول الناس فی دین اللّه أفواجا، و أمره بالتسبیح بحمد اللّه للشكر علی هذه النعمة العظیمة.
أما المعنی الخفی؛ فهو الدلالة علی اقتراب أجل النبی صلی اللّه علیه و سلم؛ لأن لقاءه بحیث یفترض أن ینتهی بانتهاء رسالته، و قد دلت السورة- بمعناها الخفی- علی هذا الانتهاء. علوم القرآن عند الشاطبی 81 (5) معرفة الظاهر و الباطن من معانی القرآن الكریم ..... ص : 73
نیتهما: أنه لما نزل قوله تعالی: الْیَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِینَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْكُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِیناً [سورة المائدة: 3] فرح الصحابة، و بكی عمر رضی اللّه عنه و قال:" ما بعد الكمال إلا النقصان!" .. مستشعرا نعیه صلی اللّه علیه و سلم. و ما عاش بعدها صلی اللّه علیه و سلم إلا واحدا و ثمانین یوما.
فالمعنی الخفی الذی فطن إلیه عمر، و ابن عباس رضی اللّه عنهما- إنما هو راجع إلی حدّة الذهن، و نفاذ البصیرة التی تلمح من المعانی ما یكون لازما للمعانی التی وضعت الألفاظ بإزائها.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 82
و من هذا یتبین أن المقصود ب" باطن" القرآن عند أهل الحق:" كل ما كان من المعانی راجعا إلی تحقق العبد بوصف العبودیة، و الإقرار للّه بحق الربوبیة؛ فذلك هو الباطن المراد، و المقصود الذی أنزل القرآن لأجله" «1».
و یقول الشاطبی:" و من زاغ و مال عن الصراط المستقیم .. فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهما و علما. و كل من أصاب الحق، و صادف الصواب .. فعلی مقدار ما حصل له من فهم باطنه" «2».

الشاطبی یستنكر المنازع البعیدة عن مدلول لغة العرب و مقاصد الشرع:

قال الشاطبی:" كون الظاهر هو المفهوم العربی مجردا لا إشكال فیه؛ لأن الموالف و المخالف اتفقوا علی أنه منزّل بلسان عربی مبین" «3».
" فإذن .. كل معنی مستنبط من القرآن، غیر جار علی اللسان العربی؛ فلیس من علوم القرآن فی شی‌ء، لا مما یستفاد منه، و لا مما یستفاد به، و من ادعی فیه ذلك؛ فهو فی دعواه مبطل" «4».
ثم قال:" و كون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر ...، و لكن یشترط فیه شرطان:
أحدهما: أن یصح علی مقتضی الظاهر المقرر فی لسان العرب، و یجری علی المقاصد العربیة.
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 388.
(2) المرجع السابق، 3/ 390.
(3) المرجع السابق، 3/ 391.
(4) المرجع السابق، 3/ 391.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 83
ثانیهما: أن یكون له شاهد- نصّا أو ظاهرا- فی محل آخر یشهد لصحته من غیر معارض".
ثم قال:" و بهذین الشرطین یتبین صحة ما تقدم أنه الباطن؛ لأنهما موفوران فیه، بخلاف ما فسّر به الباطنیة؛ فإنه لیس من علم الباطن، كما أنه لیس من علم الظاهر" «1».
و من أمثلة ذلك التفسیر الباطنی المردود عند أهل الحق- بل هو مردود لكل ذی عینین!- ما ذكره الشاطبی من ادعاء من لا خلاق له، من أنه مسمّی فی القرآن كبیان بن سمعان «2»، حیث زعم أنه المراد بقوله تعالی: هذا بَیانٌ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران: 138]. إن هذا التأویل الفاسد یجعل الآیة الكریمة قلقة فی موضعها، منقطعة الصلة بما قبلها و ما بعدها، فضلا عن أن الإشارة إلیه إذن تكون قبل مولده بكذا و كذا من عشرات السنین، و أن خیار الأمة- رسولها و صحابته و التابعین جمیعا- قاصرون عن فهم القرآن و مقصرون فی عدم الدعوة إلی هذا الفاجر!
و كذلك یقال فی ذلك الفاجر الآخر الذی تسمی ب" الكسف" «3»، و قال أتباعه أنه المراد بقوله: وَ إِنْ یَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً [سورة الطور: 44] ..
فأی معنی للآیة علی هذا الزعم الفاسد؟! أ یكون المعنی: و إن یروا رجلا ساقطا؛ یقولوا سحاب مركوم؟! تعالی اللّه عن ذلك.
______________________________
(1) المرجع السابق، 3/ 394.
(2) بیان بن سمعان النهدی: من بنی تمیم، ظهر بالعراق بعد المائة، و قال بألوهیة علی. قتله خالد ابن عبد اللّه القسری، و أحرقه بالنار." لسان المیزان" 2/ 69.
(3) الكسف هو: أبو منصور الذی تنسب إلیه فرقة" المنصوریة".
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 84
و من ذلك أیضا من فسّر" غوی" فی قوله تعالی: وَ عَصی آدَمُ رَبَّهُ فَغَوی [سورة طه: 121] بأن معناه: تخم من أكل الشجرة .. من قول العرب:
" غوی الفصیل، یغوی، غوی، فهو غو" إذا بشم من شرب اللبن! و هو فاسد؛ لأن" غوی الفصیل" علی وزن" فعل"، و الذی فی القرآن علی وزن" فعل" فمادة الفعلین مختلفة.
فإن قیل: ما اعتبره الشاطبی فاسدا من الممكن أن نجد له محملا سائغا فی اللغة العربیة، و ذلك بأن یكون ما فی القرآن علی" فعل"- بفتح العین- هو عینه ما علی" فعل"- بكسرها .. غایة الأمر أنه إذ ذاك یكون سیرا علی لغة من یقلب الیاء المكسور ما قبلها ألفا، فیقول فی بقی: بقی (و هم قبیلة طی‌ء) .. و مما یرجح هذا أنه قد قرئ بهذا- أعنی ما علی" فعل" بكسر العین و لا معنی له إلا هذا- و تفسیر قراءة بأخری- إذا أمكن الجمع بینهما- مما لا ینكر رجحانه ..
إن قیل ذلك؛ فإنا نقول: إنه لا یعدل بالحرف من القرآن عن أفصح الأوجه إلی ما دونه فی الفصاحة إلا حیث یتعذر الأخذ بذلك الأفصح .. دع عنك أن یترك الأفصح و یقال بالضعیف الذی لم یسلكه القرآن من أقصاه إلی أقصاه فی أیّ من حروفه كما هنا! فمن أین لعاقل بتعذر الأفصح فی هذا الحرف و الظاهر المتبادر فیه كأبلغ ما یكون التبادر؟! فأما أمر هذه القراءة؛ فإنه إنما یؤخذ بمقتضی القراءة إذا تواترت. فأما إذا كانت من الشذوذ، بحیث لم یستجز العلماء القول بمقتضاها؛ فمن معرض عن ذكرها بالكلیة، و من طاعن علیها أعظم الطعن ..
فإنها إن لم تجلب ضررا؛ فلا تجدی نفعا.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 85
قال أبو البقاء:" و قرئ شاذّا بالیاء و كسر الواو، و هو من غوی الفصیل إذا بشم من اللبن .. و لیست بشی‌ء".
و لا بدع كذلك ألا یعبأ بها الزمخشری- رحمه اللّه- حیث قال:" و هذا؛ یعنی هذا الوجه، إن صح علی لغة من یقلب الیاء المكسورة ما قبلها ألفا، تفسیر ضعیف" «1».
و فسّر بعضهم قوله تعالی: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [سورة الأعراف: 179] ب" ألقینا فیها"، مع أن المادة فی الفعلین مختلفة .. ف" ذرا" غیر مهموز، و" ذرأ" مهموز.
و من ذلك ما فسّر به الباطنیة قوله تعالی: وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ [سورة النمل: 16] ..
قالوا: إنه" الإمام" .. ورث النّبیّ علمه.
و قالوا فی الجنابة: إن معناها مبادرة المستجیب بإفشاء السر إلیه قبل أن ینال رتبة الاستحقاق.
و فسروا الغسل: بتجدید العهد علی من فعل ذلك.
و الطّهور: بالتبری و التنظیف من اعتقاد كل مذهب سوی متابعة الإمام.
و التیمم: بالأخذ من المأذون إلی أن یشهد الداعی أو الإمام.
و الصیام: بالإمساك عن كشف السر.
و الكعبة: بالنبی.
و الباب: بعلیّ.
و الصفا: بالنبی. و المروة: بعلیّ.
______________________________
(1) انظر: رسالة المحكم و المتشابه، لأستاذنا العلامة الدكتور إبراهیم خلیفة، ص 193.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 86
و غیر ذلك كثیر مما هو مسطّر فی كتاب" الموافقات" و" فضائح الباطنیة" للإمام الغزالی.

تفاسیر مشكلة مترددة بین الباطن الصحیح و الفاسد:

تقرر سابقا أن المقصود ب" باطن القرآن" عند أهل الحق: ما كان من المعانی راجعا إلی تحقیق العبد لوصف العبودیة، و الإقرار للّه بحق الربوبیة.
و قد حاد أقوام عن هذا النهج، ففسّروا القرآن- كما زعموا- تفسیرا باطنا لا تتسع له قواعد اللغة، و لا أصول الشرع، و هو" التفسیر الباطنی" المردود عند أهل الحق و سبقت له أمثلة آنفا.
و هنا .. یسوق الشاطبی تفاسیر مشكلة، یمكن أن تكون من قبیل الباطن الفاسد، أو من قبیل الباطن الصحیح.
" فمن ذلك: فواتح السور، نحو:" الم" و" المص" و" حم" .. و نحوها. فسّرت بأشیاء: منها ما یظهر جریانه علی مفهوم صحیح، و منها ما لیس كذلك" «1».
و بدایة، و قبل أن ننقل الأقوال التی ذكرها فی تفسیر الحروف المقطعة أوائل السور .. فإننا نقول: لم یختلف أحد من أهل الفقه بالقرآن فی أن جمیع الألفاظ التی یتهجّی بها- و التی منها الحروف المقطعة أوائل السور- أسماء، مسمّیاتها الحروف التی ركّبت منها الكلم، بحیث إذا أطلق أیّ لفظ من هذه الألفاظ دون قرینة صارفة له عن مدلوله الأصلی لم یفهم منه غیر ذلك المدلول. ثم إن المناسبة بین المعنی المتبادر الواضح لهذه الأسماء- الذی هو مسمیاتها" حروف المعجم"- و بین المعانی التی تلیها، بل بین القرآن عامة، هی أنه لمّا كانت هذه
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 396.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 87
المسمّیات عنصر الكلام و بسائطه التی یتركب منها؛ افتتح اللّه تسعا و عشرین سورة من سور القرآن، تمثل عدد الحروف العربیة كلها، بطائفة من أسماء الحروف .. تسجیلا لعجزهم، و إظهارا لتعنتهم فی عدم إیمانهم. فإن اللّه عزّ و جلّ یقول لهم بلسان هذه الحروف:" إن هذا القرآن الذی عجزتم عن الإتیان بما یدانیه- فضلا عما یساویه- لم یأتكم بلغة غیر لغتكم، و إنما أتاكم بنظم عربی اللّحمة و السّدی، لا تتركب كلماته إلا من نفس حروفكم العربیة التی تنطقون بها، فعجزكم عن الإتیان بمثله و أنتم أساطین البیان لیس إلا لكونه صادرا عن قدرة إلهیة،
هی- وحدها- القادرة علی تركیب هذا النظم العجیب الذی لا یخلق علی كثرة الرد، و لا تنقضی عجائبه!
و هذا القدر لا خلاف فیه.
أما الاختلاف الكثیر و المتشعب فی كتب التفسیر و علوم القرآن؛ فلیس اختلافا فی أصل المعنی الوضعی لهذه الحروف المقطعة، و إنما هو خلاف فی المعنی المراد منها فی مستهل السور .. أ هو ذلك المعنی الوضعی نفسه؟ أم أنها نقلت فوضعت، بإزاء معنی آخر هو مراد اللّه منها؟
و من هنا .. تعددت الأقوال التی ذكرها الشاطبی و غیره.
من ذلك: ما نقل عن ابن عباس فی الم (1):" الألف: اللّه، و اللام:
جبریل، و المیم: محمد صلی اللّه علیه و سلم". و المعنی: أن اللّه أنزل جبریل علیه السّلام علی محمد صلی اللّه علیه و سلم. قال
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 88
الشاطبی:" و هذا إن صح فی النقل؛ فمشكل؛ لأن هذا النمط من التصرف لم یثبت فی كلام العرب هكذا مطلقا" «1».
و تكلف بعض الناس؛ فجعلها دالة علی مدة بقاء هذه الأمة. قال الشاطبی:" و هو قول یفتقر إلی إثبات أن العرب كانت تعهد فی استعمالها الحروف المقطعة أن تدل بها علی أعدادها، و ربما لا یوجد مثل هذا لها البتة؛ و إنما كان أصله فی الیهود" «2».
كما زعم البعض أنها دالة علی أمور و أحوال الدنیا و الآخرة، و أنها مجمل كلّ مفصّل، و عنصر كلّ موجود. و هذا القول محال علی دعوی الكشف و الاطلاع. و یعقب الشاطبی علی ذلك بأن:" دعوی الكشف لیس بدلیل فی الشریعة علی حال، كما أنه لا یعدّ دلیلا فی غیرها" «3».
و أظهر الأقوال عند الشاطبی فی الأحرف المقطعة أنها أسرار لا یعلمها إلا اللّه.
قلت: زعمه أنها أسرار غیر صحیح؛ إذ لا یجوز أن یكون فی كتاب اللّه- بل فی شرعه جمیعا- ما لا یعرف مدلوله فلا یعقل إذن أن تكون هذه الحروف مما استأثر اللّه بعلم مدلوله- علی ما طنطن به الكثیرون- فلیست من المتشابه كما ذهب؛ إذ معناها- كما سبق- عین مسمیاتها المعروفة؛ و أنها مسوقة لغرض التحدی، و أنها محكمة لاستعمالها فیما هی راجحة الدلالة علیه علی ما هو التحقیق- كما ذكره الإمام الرازی- فی أمر المحكم و المتشابه، من أن المحكم هو
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 396.
(2) المرجع السابق، 3/ 396، 397.
(3) الموافقات، 3/ 367.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 89
ما كان راجح الدلالة علی معناه بنفسه .. احتمل مرجوحا" كالظاهر"، أو لم یحتمل" كالنص". و أن المتشابه ما لیس كذلك، أی ما كان غیر راجح الدلالة بنفسه .. مرجوحا كان" كالمؤوّل"، أو مستوی الدلالة" كالمجمل" «1».
و كأنی بك الآن قد علمت من مجری الحدیث عن هذه الحروف أن أقربها هو ما ذكرناه أولا؛ إذ الأصل فی الألفاظ استعمالها فیما وضعت له، و لا یجوز أن تخرج عن هذا الأصل إلا إذا صرفت عنه أدلة أو قرائن معتبرة. علی أنه لیس فی لغة العرب شاهد قوی یؤید هذه الأقوال التی
ذكرها الشاطبی و غیره، و لیس فی سیاق القرآن قرینة تسندها. و لا تقولنّ إنها مرویة عن السلف؛ إذ قد روی عنهم السكوت أیضا و التوقف، علی أن من المقرر فی أصول الحدیث أنه لا تلازم بین السند و المتن .. فلیس كل ما روی بسند صحیح؛ یكون صحیح الدلالة علی معناه.
و للّه درّ الأستاذ الجلیل الدكتور محمد عبد اللّه دراز حیث یقول:" و إذا ثبت الاختلاف فی المسألة عنه- أی ابن عباس- بل عن كلّ منهم؛ فقد أصبحت مسألة اجتهادیة، وجب علی الناظر أن یتخیر أقواها مدركا، و أقربها إلی ذوق العربیة" «2».
______________________________
(1) انظر: التفسیر الكبیر، 7/ 179: 182.
(2) حصاد قلم، د. محمد عبد اللّه دراز، ص 44.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 90

الفرق بین التأویل الباطنی الفاسد و التفسیر الإشاری:

التفسیر الإشاری هو تأویل القرآن بغیر ظاهره؛ لإشارة خفیة تظهر لأرباب السلوك و الفیض و یمكن الجمع بینها و بین الظاهر المراد. و هذا هو عین مراد الشاطبی من" التفسیر الباطنی الصحیح" الذی سبق ذكره.
غیر أن بعض الناس قد یخلط لدی النظرة العجلی بین التأویل الباطنی الفاسد و بین ما اصطلح علی تسمیته بالتفسیر الإشاری، مع ما بینهما من فرق نبّه علیه المحققون من أهل الفقه فی كتاب اللّه.
یقول الشیخ الجلیل محمد الخضر حسین:" إن" أصحاب الإشارات" غیر من یسمونهم" الباطنیة". فالباطنیة یصرفون الآیة عن معناها المنقول أو المعقول إلی ما یوافق بغیتهم، بدعوی أن هذا هو مراد اللّه دون ما سواه. و أما أصحاب الإشارات؛ فإنهم كما قال أبو بكر بن العربی فی كتابه" العواصم و القواصم" جاءوا بألفاظ الشریعة من بابها، و أقروها علی نصابها .. لكنهم زعموا أن وراءها معانی غامضة خفیة وقعت الإشارة إلیها من ظواهر هذه الألفاظ، فعبروا إلیها بالفكر، و اعتبروا منها فی سبیل الذكر.
فأصحاب الإشارات لا ینفون- كما ینفی الباطنیة و أذنابهم- المعنی الذی یدل علیه اللفظ العربی من نحو الأحكام، و القصص، و المعجزات .. و إنما یقولون:
إنهم یستفیدون من وراء تلك المعانی، و علی طریق الاعتبار، معانی فیها موعظة و ذكری.
و علی ما بین مذهبهم و مذهب الباطنیة من فرق واضح تری فی أهل العلم من نازعهم فی إلصاق تلك المعانی بألفاظ القرآن، و قال: إن ما جاء فی صریح القرآن و السنة من مواعظ و حكم یغنی عن ارتكاب هذه الطرق البعیدة، التی هی
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 91
فی الأصل نزعة قوم شأنهم الصّدّ عن هدی اللّه، و تعطیل أحكام شریعته الغرّاء" «1».
و أیّا ما كان .. فإن المیزان المحكّم فی تفسیر القرآن الكریم یقتضی التزام قواعد اللغة العربیة، و أصول الشریعة الإسلامیة. فتفسیر النص القرآنی بما تتخیله الأوهام و سمادیر الأحلام- بأی اسم كان- دون الانضباط بأصول اللغة و الشریعة .. باطل من القول و زور.
و من ثمّ .. فإننا سنحكّم هذا المیزان فیما نقله الشاطبی من تأویلات عن بعض أهل العلم؛ إذ القرآن الكریم لیس خاضعا لتأیید ما تصبو إلیه الآراء و الأهواء.
من ذلك .. ما نقل عن سهل بن عبد اللّه فی قوله تعالی: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [سورة البقرة: 22] .. أی أضدادا، و أكبر الأنداد: النفس الأمارة بالسوء. و كذلك تأویله قوله: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [سورة البقرة: 35] بأنه لم یرد معنی الأكل حقیقة، و إنما أراد معنی مساكنة الهمة لشی‌ء هو غیر اللّه عزّ و جلّ.
فهذه المعانی الإشاریة التی ذكرت فی هاتین الآیتین صحیحة فی ذاتها؛ إذ دلت علیها أدلة من القرآن و السنة. لكنّ الآیة التی ذكر تحتها ذلك المعنی لا تدل علیه بظاهر لفظها.
و أما تأویله قوله تعالی: إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:
96] بأن:" باطن البیت: قلب محمد صلی اللّه علیه و سلم .. یؤمن به من أثبت للّه فی قلبه التوحید، و اقتدی بهدایته" فقد قال عنه الشاطبی:" هذا التفسیر یحتاج إلی بیان .. فإن
______________________________
(1) بلاغة القرآن، محمد الخضر حسین، ص 131، 132.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 92
هذا المعنی لا تعرفه العرب، و لا فیه من جهتها وضع مجازیّ مناسب، و لا یلائمه مساق بحال" «1».
و كذلك ما نقل عنه فی تفسیر قوله تعالی: وَ الْجارِ ذِی الْقُرْبی وَ الْجارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ [سورة النساء: 36]. فقد فسّر" الجار ذا القربی" علی أن المراد به: القلب، و" الجار الجنب": النفس الطبیعیة، و" الصاحب بالجنب": العقل المقتدی بعمل الشرع، و" ابن السبیل": الجوارح المطیعة للّه. و هذا طراز من التفسیر الباطنی الفاسد، المردود عند أهل الحق. قال الشاطبی:" و ذلك لأن الجاری علی مفهوم كلام العرب فی هذا الخطاب ما هو الظاهر من أن المراد ب" الجار ذی القربی" و ما ذكر معه ما یفهم منه ابتداء، و غیر ذلك لا یعرفه العرب ..." .." و لیس- أیضا- ثمّ دلیل یدل علی صحة هذا التفسیر، لا من مساق الآیة- بل إنه ینافیه- و لا من خارج- إذ لا دلیل علیه كذلك-. بل مثل هذا أقرب إلی ما ثبت ردّه و نفیه عن القرآن من كلام الباطنیة" «2».
و قال فی قوله: صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِیرَ [سورة النمل: 44] الصرح: نفس الطبع. و الممرّد: الهوی، إذا كان غالبا؛ ستر أنوار الهدی.
و حمل بعضهم قوله تعالی: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ یُذْكَرَ فِیهَا اسْمُهُ [سورة البقرة: 114] علی أن المساجد: القلوب .. تمنع بالمعاصی من ذكر اللّه.
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 401.
(2) الموافقات، 2/ 402.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 93
و نقل فی قوله تعالی: فَاخْلَعْ نَعْلَیْكَ [سورة طه: 12] أن باطن النعلین هو الكونان: الدنیا و الآخرة. و ذكر عن الشّبلی أن المعنی: اخلع الكلّ منك؛ تصل إلینا بالكلیة.
ثم قال الشاطبی:" و هذا كله- إن صح نقله- خارج عما تفهمه العرب، و دعوی ما لا دلیل علیه فی مراد اللّه بكلامه" «1».
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 403.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 94

الأصل الثانی فیما یعوّل علیه من الشرع فی علوم القرآن‌

(1) العلوم المضافة للقرآن‌

ذكر الشاطبی أن العلوم المضافة إلی القرآن تنقسم إلی أربعة أقسام:
الأول: قسم هو كالأداة لفهمه، و استخراج ما فیه من الفوائد، و المعین علی معرفة مراد اللّه تعالی منه. كعلوم" اللغة العربیة" التی لا بدّ منها، و" علم القراءات"، و" الناسخ و المنسوخ"، و" قواعد أصول الفقه".
الثانی: قسم مأخوذ من جملته من حیث هو كلام، لا من حیث هو خطاب بأمر أو نهی أو غیرهما، بل من جهة ما هو هو. و ذلك ما فیه من دلالة النبوة، و هو كونه معجزة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم، فإن هذا المعنی لیس مأخوذا من تفاصیل القرآن، كما تؤخذ منه الأحكام الشرعیة.
الثالث: قسم مأخوذ من عادة اللّه تعالی فی إنزاله، و خطاب الخلق به، و معاملته لهم بالرفق و الحسنی، من جعله عربیّا یدخل تحت نیل أفهامهم- مع أنه المنزه القدیم- و كونه تنزّل لهم بالتقریب و الملاطفة، و التعلیم فی نفس المعاملة به، قبل النظر إلی ما حواه من المعارف و الخیرات.
قال:" و هذا نظر خارج عما تضمنه القرآن من العلوم ... و یشتمل علی أنواع من القواعد الأصلیة، و الفوائد الفرعیة، و المحاسن الأدبیة ..."، و ذكر أمثلة یستعان بها فی فهم المراد من كلامه، منها: عدم المؤاخذة قبل الإنذار .. قال:" و دل علی ذلك إخباره تعالی عن نفسه بقوله: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّی نَبْعَثَ رَسُولًا [سورة الإسراء: 15]، فجزت
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 95
عادته فی خلقه أنه لا یؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل، فإذا قامت الحجة علیهم؛ فمن شاء فلیؤمن، و من شاء فلیكفر، و لكلّ جزاء مثله.
و منها: كثرة مجی‌ء النداء باسم الرّبّ المقتضی القیام بأمور العباد و إصلاحها، فكان العبد متعلقا بمن شأنه التربیة و الرفق و الإحسان، قائلا: یا من هو المصلح لشئوننا علی الإطلاق .. أتمّ لنا ذلك بكذا .. قال:" و إنما أتی" اللهم" فی مواضع قلیلة، و لمعان اقتضتها الأحوال".
قال:" و منها: تقدیم الوسیلة بین یدی الطلب، كقوله: إِیَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ [سورة الفاتحة: 5، 6].
الرابع: و هو الأخیر، قسم هو المقصود الأول بالذكر، و هو الذی نبه علیه العلماء، و عرفوه مأخوذا من نصوص الكتاب- منطوقها و مفهومها- علی حسب ما أدّاه اللسان العربی فیه.
قال:" و ذلك أنه محتو من العلوم علی ثلاثة أجناس هی المقصود الأول:
أحدها: معرفة المتوجّه إلیه، و هو اللّه المعبود سبحانه.
الثانی: معرفة كیفیة التوجه إلیه.
الثالث: معرفة مآل العبد، لیخاف اللّه به و یرجوه".
قال:" و هذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود، عبّر عنه قوله تعالی: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِیَعْبُدُونِ [سورة الذاریات: 56]" «1».
لقد كان القسم الأول عنده فی ذكر العلوم العربیة التی لا بدّ منها، و هی من علوم القرآن، و قد وضعت فی الأصل لخدمة هذا الكتاب الكریم- علی ما سبق بیانه فی الأصل الأول- و" علم القراءات"- و هو علم خاص بالقرآن الكریم ...
______________________________
(1) انظر: الموافقات، 3/ 375: 380.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 96
و" علم أصول الفقه" من علوم القرآن أیضا؛ إذ به یعرف وجه الاستدلال علی الأحكام و الاستنباط. و قد عدّ الغزالی علم الأصول من جملة العلوم التی تتعلق بالقرآن و أحكامه.
و فی القسم الثانی إشارة إلی نوع من أنواع علوم القرآن، و هو" إعجازه"، و هو دلیل علی ثبوت التكلیف، و برهان علی لزوم الأخذ بأدلة الأحكام التكلیفیة الفقهیة. و هذا بناء علی ثبوت صدق الرسول صلی اللّه علیه و سلم، المبنی علی ثبوت برهان معجزة القرآن «1».
و فی القسم الثالث ذكر أن القرآن احتوی من هذا النوع من الفوائد و المحاسن، التی تقتضیها القواعد الشرعیة، علی كثیر یشهد بها شاهد الاعتبار، و تصححها نصوص الآیات و الأخبار «2».
و المتأمل .. یجد أن الشاطبی أخرج هذه المعلومات عن النظر فیما تضمنه القرآن من العلوم «3»، ثم جعلها مما احتوی علیه القرآن الكریم «4».
و لا بدّ أن نقول هنا كلمة وجیزة، نضمّنها عصارة ما یقوله الشاطبی فی مناط استفادة الأحكام من نوعی المعانی الأصلیة و التبعیة، و التی سبق ذكرها فی الأصل الأول.
فیذهب الشیخ إلی أنه لا إشكال فی صحة اعتبار جهة المعنی الأصلی فی الدلالة علی الأحكام بإطلاق، و لا یسع فیه خلاف بحال. و مثال ذلك:" صیغ
______________________________
(1) انظر: الموافقات، 3/ 53.
(2) المرجع السابق، 3/ 379.
(3) المرجع السابق، 3/ 377.
(4) المرجع السابق، 2/ 103.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 97
الأوامر و النواهی، و العمومات و الخصوصات ... و ما أشبه ذلك" مجردا من القرائن الصارفة لها عن مقتضی الوضع الأول.
أما اعتبار المعنی التبعی؛ فهذا محل تردد، و لكل واحد من الطرفین وجه من النظر «1».
ثم عرض بعد ذلك أدلة المانعین دون المناقشة، و لكنه نقد أدلة القائلین باستفادة أحكام زائدة من المعانی الثوانی «2».
و لا یعنینی- فی هذا المقام- أن أبحث عن أقرب الاجتهادین إلی الصواب، إنما الذی یعنینی أن أبیّن كیف أخرج الشاطبی هذه المعلومات عن النظر فیما تضمنه القرآن ثم جعلها مما احتواه.
أما إخراجها .. فمعناه أنها لیست مما یدل علیه القرآن بالدلالة الأولیة المعروفة عند الأصولیین، فلا نظر فیها فی هذا المقام- مقام الدلالة بالوضع- إذ مهما قیل:
إنها مدلول علیها بالدلالة التبعیة؛ فهی لا تؤخذ منها الأحكام عند الشاطبی.
و إن كانت منازعة الشاطبی علی منع القول باستفادة أحكام زائدة من المعانی الثوانی مدفوعة بواقع استنباط العلماء أحكاما شرعیة مستقلة بدلالة المعانی التی هی من الجهة الثانیة فی دلالة النظم، كدلالة الإشارة، و الفحوی، و الإیماء، و الاقتضاء.
و مدفوعة كذلك بما قرره هو نفسه من أنّ الأوامر و النواهی ضربان:
______________________________
(1) المرجع السابق، 2/ 95.
(2) المرجع السابق، 2/ 102.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 98
صریح، و غیر صریح، و أن الصریح منهما إما أن یعتبر من حیث مجرده دون علة مصلحته، و إما علی اعتبار علة مصلحته .. ثم قرر:" أن الأوامر و النواهی من جهة اللفظ علی تساو فی دلالة الاقتضاء، و التفرقة بین ما هو منها أمر وجوب أو ندب، و ما هو منها تحریم أو كراهة لا یعلم من النصوص، و إن علم منها بعض؛ فالأكثر منها غیر معلوم. و ما حصل لنا الفرق بینها إلا باتباع المعانی، و النظر فی المصالح، و فی أی مرتبة تقع، و بالاستقراء المعنوی، و لم نستند فیه لمجرد الصیغة، و إلا ..
یلزم فی الأمر ألا یكون فی الشریعة إلا علی قسم واحد لا علی أقسام متعددة. و النهی كذلك. بل نقول: كلام العرب علی الإطلاق لا بدّ فیه من اعتبار معنی المساق فی دلالة الصیغ، و إلّا .. صار ضحكة و هزأة! أ لا تری إلی قولهم: فلان أسد أو حمار، أو عظیم الرماد، أو جبان الكلب، و فلانة بعیدة مهوی القرط؟! فلو اعتبر اللفظ بمجرده؛ لم یكن له معنی معقول .. فما ظنك بكلام اللّه و كلام رسوله؟!" «1».
و أری ما رآه الشاطبی من أن هذه الأمثلة السبعة: نداء العبد للّه بحذف حرف النداء؛ لأنه للتنبیه، و اللّه فی غیر حاجة إلیه، و لقربه سبحانه من العبد- و نداء اللّه للعبد بحرف النداء لتنبیه الغافل، و إشعاره بالبعد- و إتیان القرآن بالكنایة عما یستقبح التصریح به، كما كنّی عن الجماع ب" اللباس"- و أسلوب الالتفات- و الأقرب فی ترك التنصیص علی نسبة الشر إلی اللّه- و الأدب فی المناظرة، كما فی
______________________________
(1) انظر: الموافقات، 3/ 153.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 99
قوله: وَ إِنَّا أَوْ إِیَّاكُمْ لَعَلی هُدیً أَوْ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ [سورة سبأ: 24]- و الأدب فی إجراء الأمور حسب العادات «1» ..
أقول: أری ما رآه من أن هذه الأمثلة آداب شرعیة، لا أحكام شرعیة تندرج تحت الحلّ و الحرمة.
أما الذی لا یسلّم له؛ فهو أن هذه الدلالة لیست من قبیل الدلالة الوضعیة. اللهم إلا إن أراد بالوضع الوضع التحقیقی. أما إن أراد أنها لیست من قبیل الدلالة اللفظیة من أی وجه؛ فذلك مدفوع؛ إذ إن ما ذكره من معان إنما هو من قبیل خصائص التراكیب و مستتبعاته «2».
و فی القسم الرابع: إشارة إلی المنطوق و المفهوم، و هذا من أنواع علوم القرآن بلا ریب.
و قبل أن ننفض أیدینا من هذا البحث نذكر عصارة ما قاله علماء القرآن فی بیانه ..
قال السیوطی:" المنطوق: ما دل علیه اللفظ فی محل النطق. فإن أفاد معنی لا یحتمل غیره؛ فالنص، نحو: فَصِیامُ ثَلاثَةِ أَیَّامٍ فِی الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [سورة البقرة: 196] ...، أو مع احتمال غیره احتمالا مرجوحا؛ فالظاهر، نحو فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ باغٍ وَ لا عادٍ [سورة البقرة: 173]، فإن الباغی یطلق علی الجاهل و علی الظالم، و هو فیه أظهر و أغلب، و نحو وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّی یَطْهُرْنَ [سورة البقرة: 222]، فإنه یقال لانقطاع طهر، و للوضوء و الغسل، و هو فی الثانی أظهر.
فإن حمل علی المرجوح لدلیل؛ فهو تأویل، و یسمی المرجوح المحمول علیه مؤولا،
______________________________
(1) انظر: الموافقات، 2/ 103، 107.
(2) سبل الاستنباط، ص 446.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 100
كقوله: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَیْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحدید: 4]، فإنه یستحیل حمل المعیة علی القرب بالذات، فتعین صرفه من ذلك إلی حمله علی القدرة و العلم أو علی الحفظ و الرعایة ...، و قد یكون مشتركا بین حقیقتین أو حقیقة و مجاز و یصلح علیهما جمیعا، سواء قلنا بجواز استعمال اللفظ فی معنییه أو لا، و وجهه علی هذا أن یكون اللفظ قد خوطب به مرتین: مرة أرید هذا، و مرة أرید هذا، و من أمثلته وَ لا یُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِیدٌ [سورة البقرة: 282]، فإنه یحتمل: لا یضارّ الكاتب و الشهید صاحب الحق بجوز فی الكتابة و الشهادة، و لا یضارّ بالفتح، أی: لا یضرهما صاحب الحق بإلزامهما ما لا یلزمهما و إجبارهما علی الكتابة و الشهادة ...
و المفهوم: ما دل علیه اللفظ لا فی محل النطق. و هو قسمان: مفهوم موافقة و مفهوم مخالفة.
فالأول: ما یوافق حكمه المنطوق. فإن كان أولی؛ سمی فحوی الخطاب، كدلالة فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ [سورة الإسراء: 23] علی تحریم الضرب؛ لأنه أشد. و إن كان مساویا؛ سمی لحن الخطاب، أی معناه، كدلالة إِنَّ الَّذِینَ یَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْیَتامی ظُلْماً [سورة النساء: 10] علی تحریم الإحراق؛ لأنه مساو للأكل فی الإتلاف. و اختلف: هل دلالة ذلك قیاسیة أو لفظیة، مجازیة أو حقیقة؟ ...
و الثانی: ما یخالف حكمه حكم المنطوق. و هو أنواع:
مفهوم صفة، نعتا كان أو حالا أو ظرفا أو عددا، نحو: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا [سورة الحجرات: 6] مفهومه: أن غیر الفاسق لا یجب التبیّن فی خبره، فیجب قبول خبر الواحد العدل. و حال نحو: وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِی الْمَساجِدِ [سورة البقرة: 187]، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [سورة البقرة: 197] أی: فلا
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 101
یصح الإحرام به فی غیرها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ [سورة البقرة:
198] أی: فالذكر عند غیره لیس محصلا للمطلوب: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِینَ جَلْدَةً [سورة النور: 4] أی: لا أقل و لا أكثر.
و شرط نحو: وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَیْهِنَ [سورة الطلاق: 6]، أی: فغیر أولات الحمل لا یجب الإنفاق علیهن.
و غایة نحو: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّی تَنْكِحَ زَوْجاً غَیْرَهُ [سورة البقرة: 230]، أی: فإذا نكحته تحل للأول بشرطه.
و حصر نحو: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [سورة الصافات: 35]، إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ [سورة طه: 98] أی فغیره لیس بإله، فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِیُ [سورة الشوری: 9] أی: فغیره لیس بولی، لَإِلَی اللَّهِ تُحْشَرُونَ [سورة آل عمران: 158] أی: لا إلی غیره، إِیَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة: 5] أی: لا غیرك.
و اختلف فی الاحتجاج بهذه المفاهیم علی أقوال كثیرة. و الأصح فی الجملة أنها كلها حجة بشروط، منها: ألا یكون المذكور خرج للغالب، و من ثم .. لم یعتبر الأكثرون مفهوم قوله: وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِی فِی حُجُورِكُمْ [سورة النساء: 23]؛ فإن الغالب كون الربائب فی حجور الأزواج، فلا مفهوم له؛ لأنه إنما خص بالذكر لغلبة حضوره فی الذهن. و ألا یكون موافقا للواقع، و من ثم .. لا مفهوم لقوله: وَ مَنْ یَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون: 117]، و قوله: لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ [سورة آل عمران: 28]" «1».
______________________________
(1) انظر: الإتقان، 3/ 104: 108.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 102

(2) المكی و المدنی‌

المكی من آیات القرآن الكریم: ما نزل قبل الهجرة. و المدنی: ما نزل بعدها.
و هذا أشهر أقوال ثلاثة ذكرها الزركشی فی" برهانه".
و من المعلوم أن من خصائص الشریعة الإسلامیة أنها جاءت متدرجة فی تشریع الأحكام. ثم إن سور القرآن الكریم و آیاته تابعة فی النزول لمراحل تدرج الشریعة فی تكوینها، فكل مرحلة من هذه المراحل تقتضی صنفا معینا من بلاغ القرآن. و كل مرحلة من هذه المراحل تعدّ أصلا و أسّا للمرحلة التالیة التی تنبنی علیها، و علی هذا المنوال كانت سور القرآن فی التنزیل، حیث ینبنی فهم لاحقها علی فهم سابقها ..
و فی بیان ذلك یقول الشاطبی:" المدنی من القرآن یفهم مرتّبا علی المكی السابق فی النزول علیه. و كذلك تفهم آیات المكی .. المتأخر منها یفهم مرتبا علی المتقدم، و كذلك شأن الآیات المدنیة بعضها مع بعض. و الدلیل علی ذلك استقراء منهج القرآن، و ذلك إنما یكون ببیان مجمل، أو تخصیص عام، أو تقیید مطلق، أو تفصیل ما لم یفصل، أو تكمیل ما لم یظهر تكمیله.
و الشاهد المقرر لصحة هذا المعنی هو أن الشریعة كلها جاءت مبنیة علی الشرائع السابقة فی الأصول، متممة لها فی الفروع، مصلحة لما فسد من دین إبراهیم علیه السّلام.
و یتلو ذلك فی النظر أن سورة الأنعام- و هی سورة مكیة- نزلت مبینة لقواعد العقائد، و أصول الدین، حتی قال المتكلمون: إنها تضمنت جمیع العقائد من أول مبحث إثبات واجب الوجود إلی إثبات الإمامة ..
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 103
ثم لما هاجر رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم إلی المدینة نزلت علیه سورة البقرة، مؤصّلة بسورة الأنعام، و مقررة لقواعد التقوی و أصولها. فبینما كانت سورة الأنعام المكیة تقرر أصول التوحید، و النبوة، و المعاد، و دلائلها .. كانت سورة البقرة تؤصل العبادات، و قواعد الإسلام، و تقرر أحكام المعاملات من البیوع و الأنكحة، و العادات من أصل المأكول و المشروب و ما أشبههما، و أحكام الدیات و الدماء و ما یلیها، و ما زاد علی ذلك من فروع التقوی من التكالیف مما جاء بعدها و لم یذكر فیها، فقد جاء مكملا لما جاء فیها مردودا إلیه، مثلما كانت سورة الأنعام تأصیلا للعقائد، و ما لم یذكر فیها من العقائد- و جاء بعد نزولها- اعتبر داخلا تحت أصولها ...، و كذلك نری هذا المعنی متقررا بین كل سورة من المكی و المدنی، و الترتیب بین السور و الآیات یشیر إلی ابتناء اللاحق علی السابق، و المتأخر علی المتقدم.
فلا یغیبن علی الناظر فی الكتاب هذا المعنی، فإنه من أسرار علوم التفسیر.
و للسنة فی هذا الترتیب مدخل للحفظ؛ إذ هی مبینة للكتاب، فهی تابعة له فی ترتیب نزوله «1».
______________________________
(1) انظر: الموافقات، 3/ 406: 408، و مقدمة التعریف بأصول الفقه و الفقه، للدكتور محمد سعاد جلال، 48، 49.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 104

(3) المحكم و المتشابه‌

1- إطلاقات المحكم و المتشابه:

قال الشاطبی:" یطلق المحكم بإطلاقین: عام، و سیأتی بیانه. و خاص، و یراد به خلاف المنسوخ، و هی عبارة علماء الناسخ و المنسوخ، سواء علینا أ كان ذلك الحكم ناسخا أم لا، فیقولون: هذه الآیة محكمة، و هذه الآیة منسوخة" «1».
و یطلق المتشابه و یراد منه خصوص ما یرد من القصة الواحدة فی سور شتی و فواصل مختلفة.
قال الزركشی:" و یكثر فی إیراد القصص و الأنباء. و حكمته: التصرف فی الكلام، و إتیانه علی ضرب لیعلمهم عجزهم عن جمیع طرق ذلك مبتدا به و متكررا" «2».
و من أمثلة ذلك: قوله تعالی فی قصة بنی إسرائیل: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْیَةَ فَكُلُوا مِنْها حَیْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطایاكُمْ وَ سَنَزِیدُ الْمُحْسِنِینَ فَبَدَّلَ الَّذِینَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَیْرَ الَّذِی قِیلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا یَفْسُقُونَ [سورة البقرة: 58، 59].
و یقول فی القصة عینها فی موضع آخر: وَ إِذْ قِیلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْیَةَ وَ كُلُوا مِنْها حَیْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِیئاتِكُمْ سَنَزِیدُ الْمُحْسِنِینَ فَبَدَّلَ الَّذِینَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَیْرَ الَّذِی
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 85.
(2) البرهان، 1/ 112.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 105
قِیلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَیْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا یَظْلِمُونَ [سورة الأعراف: 161، 162].
كما یطلق المتشابه- مقابلا للإطلاق الخاص عند الشاطبی- علی المنسوخ. فهذا أحد إطلاقاته، و هو فی غیر القرآن.
أما فی القرآن؛ فیطلق كل منهما بإطلاقین:
أحدهما: یطلق كلّ منهما وصفا لجمیع القرآن، قال تعالی فی بیانه الإلهی:
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آیاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِیمٍ خَبِیرٍ [سورة هود: 1]، و قال تعالی: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِیثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِیَ [سورة الزمر: 23].
فكلّ من وصفی الإحكام و التشابه فی هاتین الآیتین صفة مدح لجمیع القرآن، لا دلالة فی أحدهما علی ما یضاد الآخر. فمعنی كون القرآن كله محكما- كما فی قوله:
أُحْكِمَتْ آیاتُهُ: الإتقان، و المنع من الفساد، و جعله تعالی آیات كتابه حكیمة.
و هذه الأوجه الثلاثة التی ذكرها المفسرون كلها سائغة من حیث اللغة، و من حیث صحة الإرادة كذلك. غیر أن الوجه الثالث هو خیرها جمیعا علی ما حققه أستاذنا الجلیل الدكتور إبراهیم خلیفة، حیث یقول:" إن فعل" أحكمت" بمعنی جعلت حكیمة، بوصفه مطلقا عن القید، تذهب النفس- الفاقهة لمقام إیراده وصف مدح لآیات الكتاب العزیز- فی اجتلاء عظمة كنهه كلّ مذهب، فلا تلبث أن تصرفه إلی الفرد الكامل، و ذلك یعنی أن الآیات وضعت كل شی‌ء فی أحسن مواضعه السلیمة اللائقة. و لا یتم هذا إلا إذا كان كلّ من نظمها و معناها و غایتها
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 106
موضوعا فی أسلم المواضع و أحسنها بحیث تكون من بلاغة النظم و شرف المعنی و سموّ الغایة" «1».
و أما معنی كون القرآن كله متشابها؛ فإن من الجلی أن صوغ مادة التشابه به فی قوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِیثِ كِتاباً مُتَشابِهاً [سورة الزمر: 23]، علی صورة التفاعل یقضی بأن الكتاب الكریم ذو أجزاء كلها یشبه بعضها بعضا، علی ما هو الكثیر الغالب فی صورة التفاعل.
و قد بین المفسرون الكمالات التی تتشابه فیه أبعاض الكتاب العزیز.
قال الزمخشری:" و" متشابها" مطلق فی مشابهة بعضه بعضا. فكان متناولا لتشابه معانیه فی الصحة، و الإحكام، و البناء علی الحق و الصدق، و منفعته الخلق، و تناسب ألفاظه، و تناسقها فی التخیر و الإصابة، و تجاوب نظمه و تألیفه فی الإعجاز و التبكیت" «2».
و بهذا یتبین أن كلا من الإحكام فی آیة هود و التشابه فی آیة الزمر نعت كمال للقرآن جمیعا، و أنه لیس بینهما أدنی قدر من التضاد، بحیث یقتضی الاتصاف بأحدهما التجرد من الآخر. بل فی اجتماعهما شاهد حقیة القرآن و كماله، و آیة: لَتَنْزِیلُ رَبِّ الْعالَمِینَ (192).
______________________________
(1) انظر: رسالة المحكم و المتشابه، د. إبراهیم خلیفة، 1/ 3.
(2) انظر: الكشاف، 4/ 95.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 107

2- تقسیم القرآن إلی محكم و متشابه و تعریف كلّ منهما:

و هذا هو الإطلاق الثانی الذی وقع فیه النزاع بین علماء القرآن:
دلت آیة هود- كما قلنا سابقا- علی أن جمیع القرآن محكم بالمعنی الذی ذكرناه آنفا. و آیة الزمر أن جمیعه متشابه بالمعنی الذی ذكرناه أیضا.
أما قوله تعالی: هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ عَلَیْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آیاتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [سورة آل عمران: 7]؛ فإنها تدل علی أن بعض القرآن محكم- أی إحكاما خاصّا لا تشابه فیه- و بعضه متشابه أی تشابها خاصّا لا إحكام فیه. و من ثمّ .. كثر الخلاف بین علماء القرآن فی شرح حقیقة كلّ منهما.
و المختار لدی المحققین ما ذهب إلیه الإمام الرازی حیث قال:" و لا بدّ لنا من تفسیر المحكم و المتشابه بحسب أصل اللغة، ثم تفسیرهما فی عرف الشریعة" ..
ثم قال:" الناس قد أكثروا من الوجوه فی تفسیر المحكم و المتشابه، و نحن نذكر الوجه الملخّص الذی علیه أكثر المحققین، فنقول: اللفظ الذی جعل موضوعا لمعنی .. فإما أن یكون محتملا لغیر ذلك المعنی، و إما ألّا یكون. فإذا كان موضوعا لمعنی، و لا یكون محتملا لغیره؛ فهذا هو النص. و أما إن كان محتملا لغیره؛ فلا یخلو .. إما أن یكون احتماله لأحدهما راجحا علی الآخر، و إما ألّا یكون كذلك .. فیكون احتماله لهما بالنسبة للراجح ظاهرا، و بالنسبة للمرجوح مؤولا. و أما إن كان احتماله لهما علی السّویّة؛ كان اللفظ بالنسبة إلیهما معا مشتركا، و بالنسبة إلی كل واحد منهما علی التعیین مجملا.
فقد خرج من التقسیم الذی ذكرناه أن اللفظ إما أن یكون نصّا، أو ظاهرا، أو مؤوّلا، أو مشتركا، أو مجملا. أما النص و الظاهر؛ فیشتركان فی
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 108
حصول الترجیح .. إلا أن النص راجح مانع من الغیر، و الظاهر راجح غیر مانع من الغیر. فهذا القدر المشترك هو المسمی بالمحكم. و أما المجمل و المؤول؛ فهما مشتركان فی أن دلالة اللفظ علیه- المعنی- غیر راجحة. و إن لم یكن راجحا، لكنه غیر مرجوح؛ فهو المجمل. و المؤول، مع أنه غیر راجح، فهو مرجوح لا بحسب الدلیل المنفرد. فهذا القدر المشترك هو المسمّی بالمتشابه".
ثم قال:" .. فلا بد من قانون یرجع إلیه فی هذا الباب .. فنقول: اللفظ إذا كان محتملا معنیین، و كان بالنسبة إلی أحدهما راجحا، و بالنسبة إلی الآخر مرجوحا، و لم نحمله علی المرجوح؛ لا بدّ فیه من دلیل منفصل. و ذلك الدلیل المنفصل إما أن یكون لفظیّا، و إما أن یكون عقلیّا. أما القسم الأول؛ فنقول: هذا إنما یتم إذا حصل بین هذین الدلیلین اللفظیین تعارض. و إذا وقع التعارض بینهما؛ فلیس ترك ظاهر أحدهما- رعایة لظاهر الآخر- أولی من العكس ...
فثبت بما ذكرناه أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلی معناه المرجوح فی المسائل القطعیة لا یجوز إلا عند قیام الدلیل القطعی العقلی علی أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال. و قد علمنا فی الجملة أن استعمال اللفظ فی معناه المرجوح جائز عند تعذّر حمله علی ظاهره، فعند هذا یتعین التأویل. فظهر أنه لا سبیل إلی صرف اللفظ عن معناه الراجح إلی معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلیة القاطعة علی أن معناه الراجح محال عقلا" «1».
و الخلاصة من كلام الإمام .. أن المحكم: ما كان راجح الدلالة علی معناه بنفسه .. احتمل مرجوحا كالظاهر، أو لم یحتمل كالنص. و أن المتشابه: ما لیس
______________________________
(1) انظر: التفسیر الكبیر، ط. عبد الرحمن، 7/ 179: 182.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 109
كذلك، أی ما كان غیر راجح الدلالة بنفسه. مرجوحا كان كالمؤوّل، أو مستوی الدلالة كالمجمل. و هو كلام سدید؛ لأن مدار الإحكام علی ما یفهم من الآیة نفسها إنما هو علی الوضوح. و كذلك شأن النص و الظاهر .. اللذین جعل المحكم هو القدر المشترك بینهما. و أن مدار التشابه به یدور علی كون الكلام خفیّا یتبعه الزائغ ابتغاء الفتنة، و إنما یظفر الزائغ بها- الفتنة- فی المجمل و المؤوّل ..
اللذین جعل التشابه هو القدر المشترك بینهما.
هذا ما نراه تحقیقا فی أمر المحكم و المتشابه ...
أما الشاطبی؛ فقد عرّف المحكم بمعناه العام أنه:" البیّن، الواضح الذی لا یفتقر فی بیان معناه إلی غیره. و المتشابه: هو الذی لا یتبین المراد به من لفظه ..
كان مما یدرك مثله بالبحث و النظر، أم لا" «1».
ثم إننا لا نجد من سبیل إلی موافقة الشاطبی فی إدراج الظاهر تحت معنی المتشابه، و المؤول تحت معنی المحكم؛ إذ إن الظاهر راجح بنفسه فی معناه عند عدم القرینة الصارفة عنه، قضاء بما علم من كون العدول عن المعنی الظاهر من غیر دلیل عبثا، و قضاء بتعریف الشاطبی نفسه للمحكم. و بناء علی ذلك .. فإننا نری- كما قرر الإمام الرازی- إدراج الظاهر تحت المحكم لا تحت المتشابه.
و قلنا بتشابه المؤول لا بإحكامه- كما یدعی الشاطبی- حتی مع الموجب؛ لبقاء تشابهه ببقاء دلالته علی الأصل المتروك، و خفاء موجبه، دع عنك ما عرفته من تأتّی حصوله فی النفس مع الذهول .. بل الجهل التام بهذا الموجب.
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 85.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 110
اللهم إلا ما استثنی من المؤول بأنه لا تشابه فیه، و ذلك بسبب معلومیة المراد منه بالضرورة، لا بسبب مجرد إیجاب الموجب لمعناه المرجوح.

3- التشابه فی الأدلة قلیل:

المتشابه المقابل للمحكم بعض القرآن كمقابله، و هو علی بعضیته قلیل فی القرآن الكریم.
أما أنه بعض القرآن؛ فلقوله تعالی: وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [سورة آل عمران: 7] معطوفا علی قوله: آیاتٌ مُحْكَماتٌ [سورة آل عمران: 7] المخبر عنه، أو المعنون له بكونه من الكتاب- أی بعضه- فلا بد أن یكون مثله فی حكم البعضیة ..
قضاء بما یوجبه العطف من التشریك فی الحكم.
و أما أنه قلیل فی القرآن؛ فلأمور:
أحدها: وصف اللّه الآیات المحكمات بكونها" أمّ الكتاب"، فإن" الأم"- هنا- معناه: المعظم، قال الشاطبی:" فقوله فی المحكمات: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ [سورة آل عمران: 7] یدل علی أنها المعظم و الجمهور. و" أمّ الشی‌ء" معظمه و عامته، كما قالوا:" أمّ الطریق" بمعنی معظمه، و" أم الدماغ" بمعنی الجلدة الحاویة له الجامعة لأجزائه و نواحیه" «1».
و ما قاله الشاطبی فی تفسیر" الأم" هو المقرر كذلك فی لغة العرب .. ففی" اللسان": و" أمّ الطریق" معظمه، إذا كان طریقا عظیما و حوله طرق صغار.
فالأعظم: أمّ الطریق. فإذا كانت المحكمات معظم القرآن؛ فالمتشابهات- لا ریب- أقله «2».
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 86.
(2) انظر: الإحسان، د. إبراهیم خلیفة، ص 276.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 111
الثانی: أن المتشابه لو كان كثیرا؛ لكان الالتباس و الإشكال كثیرا، و عند ذلك لا یطلق علی القرآن أنه بیان و هدی، و كیف .. و قد سماه اللّه كذلك فقال:
هذا بَیانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدیً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِینَ [سورة آل عمران: 138]، و قال تعالی: هُدیً لِلْمُتَّقِینَ [سورة البقرة: 2]، و قال: وَ أَنْزَلْنا إِلَیْكَ الذِّكْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ [سورة النحل: 44]؟! و إنما نزل القرآن لیرفع الاختلاف الواقع بین الناس.
و المشكل الملتبس إنما هو إشكال و حیرة، لا بیان و هدی .. لكن الشریعة إنما هی بیان و هدی؛ فدل علی أنه لیس بكثیر.
ثم یقول الشاطبی- بعد أن ساق هذا الدلیل:" و لو لا أن الدلیل أثبت أن فیه متشابها؛ لم یصح القول به" «1».
و أما ثالث الأمور القاضیة بقلة المتشابه فی القرآن الكریم؛ فالاستقراء ..
و ذلك أن المجتهد العارف بكلام العرب و عاداتهم، الواقف علی المقامات و الوقائع التی أنزلت فیهما، إذا تأمل فی هذا الكتاب الكریم؛ وجد الغالب من مفرداته و تراكیبه من الوضوح بحیث لا یخفی علی عامة المتدبرین.
فإن قیل: كیف تزعم أن الالتباس و الإشكال فی القرآن قلیل، و ما أكثر ما یختلف مفسروه- علی تعدد مشاربهم- فی معانی مفرداته و تراكیبه؟! أ لم تر إلی المعربین، و المتكلمین، و الفقهاء .. كم یختلفون فیه؟! و كم فیه من عام یحتاج إلی مخصّص، و مطلق یحتاج إلی مقیّد، و مجمل یحتاج إلی مبیّن، و ظاهر یحتاج إلی تأویل! فإذا ثبت أن فیه كل هذا الالتباس؛ فهل مثاره إلا التشابه الذی یحول
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 87.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 112
دون الفهم، و یوقع فی الإشكال؟! فكیف تزعم- بعد ذلك- أن المتشابه فی القرآن قلیل؟!
و أجیب: بأن معظم ما قیل مما أشیر إلیه من الاختلاف لا یدل علی الالتباس المفضی إلی التشابه فی الواقع و نفس الأمر؛ و ذلك لأن كثیرا من هذه الاختلافات یرجع إلی إیراد طائفة من الأوجه هی كثیر بحسب الصناعة، واحد بحسب لبّ المعنی .. و لا ریب أنه لیس فی مثل ذلك تشابه و لا التباس.
و منها ما یرجع إلی التقصیر فی إجراء القرآن علی أحسن ما یقضی به اللسان العربی المبین، من الذهاب فی تأویل الكلمة أو الجملة إلی وجه شاذ أو ضعیف فی منطق العرب الخلّص، أو عدم مراعاة مقامات الخطاب بالآیات، أو عدم العنایة بتناسق التراكیب، و أخذ بعضها بحجزة بعض.
و منها ما یرجع إلی تقصیر المرء فی تطلب ما یدفع إشكاله، من نحو تخصیص عام، أو تقیید مطلق، أو بیان مجمل .. و غیر ذلك. و لو عنی بتطلب ذلك؛ لتیسر له الظفر به من الكتاب أو السنة، أو دلیل الحس أو العقل.
و منها ما یرجع إلی قصر القرآن فی التأویل علی قوانین علوم و مذاهب مستحدثة ما أنزل علیها، و لا كان نزوله من أجلها.
و كل هذه الأنواع من الاختلاف لیست من المتشابه فی واقع الأمر، فإنه لو زایل التقصیر أولئك، و التّنطّع هؤلاء؛ ما اختلفوا فیه، و لا التبس علیهم .. فالتشابه فی عقولهم و أفهامهم، لا فی القرآن المجید!
و قد سمّی الشاطبی هذا النوع من التشابه ب" التشابه الإضافی".
و إنما المتشابه بحق مما اختلفوا فیه: ما كان معناه فی غایة الالتباس و الغموض بحیث یشكل، و لا یقدر علی درك تأویله و إدحاض شبهة الزائغین فیه من خلق
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 113
اللّه إلا الراسخون فی العلم. و لا ریب أن ذلك- مما اختلفوا فیه- قلیل لا كثیر «1».

4- لا یدخل التشابه قواعد الشرع الكلیة:

لا یدخل التشابه بالمعنی الذی قررناه فی قواعد الشرع الكلیة التی جاء بها القرآن الكریم و السنة النبویة، كربوبیته تعالی، و تنزهه عن النقائص، و صدق رسوله صلی اللّه علیه و سلم فیما بلغه إلی خلقه، و حقیة ما أخبر به من الیوم الآخر، و كون هذه الشریعة الإسلامیة الغراء حقّا من عند اللّه تعالی.
هذه الأصول الكلیة و ما إلیها لا إجمال فیها و لا خفاء، كما هی خصیصة المتشابه. و فی بیان ذلك یقول الشاطبی:" التشابه لا یقع فی القواعد الكلیة، و إنما یقع فی الفروع الجزئیة. و الدلیل علی ذلك من وجهین:
أحدهما: الاستقراء أن الأمر كذلك.
و الثانی: أن الأصول لو دخلها التشابه؛ لكان أكثر الشریعة من المتشابه.
و هذا باطل. و بیان ذلك: أن الفرع مبنی علی أصله .. یصح بصحته، و یفسد بفساده، و یتضح بإیضاحه، و یخفی بخفائه. و علی الجملة .. فكل وصف فی الأصل مثبت فی الفرع؛ إذ كل فرع فیه ما فی الأصل. و ذلك یقتضی أن الفروع المبنیة علی الأصول المتشابهة متشابهة. و معلوم أن الأصول منوط- مرتبط- بعضها ببعض فی التفریع علیها، فلو وقع فی أصل من الأصول اشتباه؛ لزم سریانه فی جمیعها، فلا یكون المحكم أمّ الكتاب. لكن ثبت أنه كذلك؛ فدل علی أن المتشابه لا
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 87 و ما بعدها، و رسالة المحكم و المتشابه، ص 84، 85.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 114
یكون فی شی‌ء من الأصول- و هی القواعد الكلیة- .. سواء فی ذلك ما كان فی أصول الأعمال، أو أصول الاعتقادات.
فإن قیل: فقد وقع فی الأصول أیضا .. فإن أكثر الزائغین عن الحق إنما زاغوا فی الأصول لا فی الفروع! و لو كان زیغهم فی الفروع؛ لكان الأمر أسهل علیهم ..
فالجواب: أن المراد ب" الأصول" هو القواعد الكلیة .. كانت فی أصول الدین، أو فی أصول الفقه، أو فی غیر ذلك من معانی الشریعة الكلیة لا الجزئیة.
و عند ذلك لا نسلّم أن التشابه وقع فیها البتة، و إنما فی فروعها. فالآیات الموهمة للتشبیه؛ و الأحادیث التی جاءت مثلها، فروع عن أصل التنزیه، الذی هو قاعدة من قواعد العلم الإلهی" ..
ثم قال: .." فإذا اعتبر هذا المعنی؛ لم یوجد التشابه فی قاعدة كلیة، و لا فی أصل عام. اللهم إلا أن یؤخذ التشابه علی أنه الإضافی .. فعند ذلك [لا] «1» فرق بین الأصول و الفروع فی ذلك. و من تلك الجهة حصل فی العقائد الزیغ و الضلال. و لیس هو المقصود هنا إنما المقصود بنفیه عن الأصول هو التشابه الحقیقی، و لا هو مقصود و صریح اللفظ .. و إن كان مقصودا بالمعنی؛ لأنه تعالی
______________________________
(1) علّق المحقق الشیخ عبد اللّه دراز هنا بأن: المقصود أنك إذا أخذت هنا التشابه بالمعنی الإضافی لم یكن ثمة فرق بین الأصول و الفروع. و علی هذا الفهم یكون قد سقط من عبارة" الموافقات" حرف" لا"، و أصل الكلام:" فعند ذلك لا فرق بین الأصول ...".
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 115
قال: مِنْهُ آیاتٌ مُحْكَماتٌ، فأثبت فیه متشابهات. و ما هو راجع لغلط الناظر لا ینسب إلی الكتاب حقیقة، و إن نسب إلیه؛ فبالمجاز" «1».

5- تأویل المتشابه:

المتشابهات تجمع ألوانا مختلفة، و ذلك بناء علی التعریفات المختلفة لكلّ من المحكم و المتشابه. و نزیدك هنا إیضاحا و تمثیلا أن من بینهما لونین كثر الكلام فیهما ..
أولهما: فواتح السور، و قد اختار الشاطبی أنها من المتشابه الذی استأثر اللّه بعلمه، و قد أفضنا القول فیها بمبحث الظاهر و الباطن فی القرآن الكریم، مرجّحین أنها مما یعلم و یفسر، و ذلك بناء علی ما اخترناه من أن المحكم ما كانت دلالته راجحة، و هو النص و الظاهر و المتشابه ما كانت دلالته غیر راجحة، و هو المجمل و المؤول، و علی هذا یؤول المتشابه علی ما ترتضیه قوانین اللغة من المعانی كی یخرج من الخفاء إلی الوضوح.
و ثانیهما: متشابه الصفات. و حاصل خلاف المختلفین فی هذا النموذج علی الجملة أنهم بعد الاتفاق علی صرف ما جاء من تلك الألفاظ عن ظاهرها المستحیل الموهم للنقص، المتمثل فی قیام الحوادث و صفات الجوارح به تعالی إلا ما كان من دعوی ابن تیمیة و ابن القیم و من لفّ لفّهما من كون الظاهر فی هذه الألفاظ غیر مستحیل لكونه لیس صفات الجوارح، بل ظاهر كل شی‌ء بحسبه اللائق به ..
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 97، 98.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 116
أقول: بعد صرفهم الألفاظ الموهمة عن ظاهرها الموهم للنقص، اختلفوا ما بین مفوّض المعنی المراد إلیه تعالی- و هم من یسمون ب" المفوّضة"، أو أهل التفویض، و بین باذل جهده فی التعرف علی المعنی المراد، مستعینا باللغة و السیاق و یسمی هذا الفریق" المؤولة"، أو أهل التأویل.
و من الفریق الأول الشاطبی. غیر أنه قسم المتشابه إلی: حقیقی و إضافی، و أراد من الحقیقی: ما لا سبیل إلی فهم المراد منه، و أراد من الإضافی: ما اشتبه معناه لاحتیاجه إلی مراعاة دلیل آخر .. قال:" فإذا تقصّی المجتهد أدلة الشریعة؛ وجد فیها ما یبین معناه. و التشابه بالمعنی الحقیقی قلیل جدّا، و بالمعنی الإضافی كثیر" «1».
ثم حكی المذهبین السابقین فقال:" و تسلیط التأویل علی المتشابه الحقیقی لا یلزم؛ إذ قد تبین أنه لا یتعلق به تكلیف سوی مجرد الإیمان به؛ لأنه لم یقع بیانه بالقرآن الصریح، أو بالحدیث الصحیح، أو الإجماع القاطع. فالكلام فی مراد اللّه من غیر هذه الوجوه تسوّر، علی ما لا یعلم و هو غیر جائز. و أیضا .. فإن السلف الصالح من الصحابة و التابعین و من بعدهم من المقتدین بهم لم یعرضوا لهذه الأشیاء و لا تكلموا فیها بما تقتضی تعیین تأویل من غیر دلیل .. و هم الأسوة و القدوة، و الآیة تشیر إلی ذلك" .. و هی فَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِیلِهِ، ثم قال: وَ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 91.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 117
و ذهب جماعة من متأخری الأمة إلی تسلیط التأویل علیها رجوعا إلی ما یفهم من اتساع العرب فی كلامها، من جهة الكنایة و الاستعارة و التمثیل و غیرها من أنواع الاتساع، تأنیسا للطالبین، و بناء علی استبعاد الخطاب بما لا یفهم، مع إمكان الوقوف علی قوله: وَ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ و هو أحد القولین للمفسرین.
و هی علی كلّ مسألة اجتهادیة، لكن الصواب من ذلك ما كان علیه السلف" «1».
و التحقیق أنه لا خلاف فی الحقیقة و واقع الأمر بین الطریقتین: طریقة التفویض و طریقة التأویل.
فطریقة التفویض التی ثبتت فیها آثار عدیدة عن السلف- رضوان اللّه علیهم- لا تقتضی بحال أن أهلها كانوا یرون رجحان التفویض بإطلاق علی التأویل، و لا أنهم كانوا یجهلون المعانی التی ینبغی أن تحمل علیها هذه الظواهر بعد الصرف عن ظواهرها، و لا أنهم كانوا لا یرون صحة طریقة التأویل مطلقا.
كیف .. و هم الراسخون فی العلم؟! بل كیف .. و قد سمعوا اللّه و رسوله أنفسهما یؤوّلان؟! علی ما أخرج مسلم فی صحیحه عن أبی هریرة قال: قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم: «إنّ اللّه عزّ و جلّ یقول یوم القیامة: یا ابن آدم .. مرضت فلم تعدنی. قال: یا ربّ .. كیف أعودك و أنت ربّ العالمین؟! قال: أما علمت أنّ عبدی فلانا مرض فلم تعده؟! أما علمت أنّك لو عدته لوجدتنی عنده؟! یا ابن آدم ..
استطعمتك فلم تطعمنی. قال: یا ربّ .. كیف أطعمك و أنت ربّ العالمین؟!
______________________________
(1) المرجع السابق، 3/ 98، 99.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 118
قال: أما علمت أنّه استطعمك عبدی فلان فلم تطعمه؟! أما علمت أنّك لو أطعمته لوجدت ذلك عندی؟! یا ابن آدم .. استسقیتك فلم تسقنی. قال: یا ربّ .. كیف أسقیك و أنت ربّ العالمین؟! قال: استسقاك عبدی فلان فلم تسقه .. أما إنّك لو سقیته؛ وجدت ذلك عندی!» «1» .. حیث وقع التأویل فی النسبة الإسنادیة كما هو ظاهر (مرضت، استطعمتك، استسقیتك) بالإسناد إلی العبد، كما وقع فی النسبة الإیقاعیة" تعدنی، تطعمنی، تسقنی" بالإیقاع علی ضمیر العبد. و حاصل هذا و ذاك أن المراد هو المجاز، و لیس الحقیقة حسبما فهم ابن آدم فأخطأ فی فهمه.
فكیف یستنكفون بعد هذا عما لم یستنكف عنه اللّه و رسوله؟! بل كیف و قد ثبت عنهم التأویل التفصیلی فی غیر ما موضع، كالذی جاء فی" دفع شبه التشبیه" لابن الجوزی بسند صحیح- كما ذكر- عن الإمام أحمد من تأویل المجی‌ء فی قوله تعالی: وَ جاءَ رَبُّكَ [سورة الفجر: 22]، و الإتیان فی قوله: هَلْ یَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ یَأْتِیَهُمُ اللَّهُ فِی ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [سورة البقرة: 210]، من أن المراد إتیان أمره، علی ما فی الآیة الأخری هَلْ یَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِیَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ یَأْتِیَ رَبُّكَ [سورة الأنعام: 158]. كما أجمعوا كلهم علی تأویل قوله تعالی: فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [سورة البقرة: 115]، و قوله تعالی: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِیدِ [سورة ق: 16] .. إلی غیر ذلك من آی الذكر الحكیم. كما ثبت عن الإمام مالك و الأوزاعی تأویل النزول فی حدیثه- علی ما بین النووی فی شرح هذا الحدیث من صحیح مسلم- و إجماعهم كذلك علی تأویل الأحادیث
______________________________
(1) انظر: صحیح مسلم، كتاب البر، باب عیادة المریض، حدیث رقم 4661.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 119
الثلاثة المشهورة «قلوب العباد بین إصبعین من أصابع الرحمن»، «الحجر الأسود یمین اللّه فی الأرض»، «إنی لأجد نفس الرحمن من قبل الیمن».
و إنما الوجه فی نكولهم فی أكثر الأحیان عن التأویل أنهم كانوا یسدّون بابا یخشون أن یلج منه علی قلوب العامة أهل الزیغ و الضلالة. فأما بعد إذ فتح ذلك الباب علی مصراعیه و ماضت شبهات المجسّمة و الجاحدین علی ما لا یحل من الظاهر فی قلوب كثیر من الدهماء؛ فإنه لم یبق معدل لعاقل یجل اللّه و رسوله و یرحم عباده أن یرتكسوا فی حمأة الضلالة فیه ..
نقول: لم یبق معدل لمثل هذا العاقل عن مكایدة الزائغین بتأویل ما تشبثوا به من هذه الظواهر. فلعمر الحق لقد علم ذو نصفة و بصیرة أنه لا یفلّ حد الزائغ و یجتث شبهته من جذورها أعظم من بیان التأویل لما یشكك به! و لو قدّر أن الأكابر ممن أثرت عنهم هذه الآثار فی التفویض قد ابتلوا بما ابتلی به المؤولة من سورة شبهات التجسیم و التشبیه؛ لكانوا أحفی خلق اللّه بالتأویل و أسبقهم إلیه! أ لم تر إلی هذا الفحل من أعلام علماء السنة- روایة و درایة- أبی سلیمان الخطابی .. كیف یقول فی حدیث وضعه تعالی قدمه أو رجله فی النار:" فیشبه أن یكون من ذكر القدم و الرجل أو ترك الإضافة، إنما تركها تهیّبا لها طالبا للسلامة من خطأ التأویل فیها. و كان أبو عبیدة- و هو أحد أئمة أهل العلم- یقول:
" نحن نروی هذه الأحادیث و لا نریغ لها المعانی". قال أبو سلیمان:" و نحن أحری بألّا نتقدم فیما تأخر عنه من هو أكثر علما و أقدم زمانا و سنّا، و لكن الزمان الذی نحن فیه قد صار أهله حزبین: منكر لما یروی من نوع هذه الأحادیث رأسا، و مكذب به أصلا! و فی ذلك تكذیب العلماء الذین رووا هذه الأحادیث و هم أئمة الدین، و نقلة السنن، و الواسطة بیننا و بین رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم. و الطائفة
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 120
الأخری مسلّمة للروایة فیها، ذاهبة فی تحقیق الظاهر منها مذهبا یكاد یفضی بهم إلی القول بالتشبیه. و نحن نرغب عن الأمرین معا، و لا نرضی بواحد منهما مذهبا، فیحق علینا أن نطلب لما یرد من هذه الأحادیث- إذا صحت من طریق النقل و السند- تأویلا یخرّج علی معانی أصول الدین و مذاهب العلماء، و لا تبطل الروایة فیها أصلا إذا كانت طرقها مرضیّة و نقلتها عدولا. قال أبو سلیمان:
ذكر القدم هنا یحتمل أن یكون المراد به قدّمهم اللّه للنار من أهلها، فیقع بهم استیفاء عدد أهل النار، و كل شی‌ء قدمته فهو قدم، كما قیل لما هدّمته: هدم، و لما قبضته: قبض، و من هذا قوله عزّ و جلّ: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة یونس:
2]، أی ما قدموه من الأعمال الصالحة، و یؤیده قوله فی الحدیث: «و أما الجنة؛ فإن اللّه ینشئ لها خلقا» .. فاتفق المعنیان: أن كل واحدة من الجنة و النار تمدّ بزیادة عدد یستوفی بها عدة أهلها، فتمتلئ عند ذلك" «1».
و قال الحافظ ابن حجر:" أكثر السلف- لعدم ظهور أهل البدع فی أزمنتهم- یفوضون علمها إلی اللّه تعالی، مع تنزیهه- سبحانه و تعالی- عن ظاهرها الذی لا یلیق بجلال ذاته. و أكثر الخلف یؤولونها، بحملها علی محامل تلیق بذلك الجلال الأقدس و الكمال الأنفس؛ لاضطرارهم إلی ذلك، لكثرة أهل الزیغ و البدع فی أزمنتهم، و من ثمّ .. قال إمام الحرمین: لو بقی الناس علی ما كانوا علیه؛ لم نؤمر بالاشتغال بعلم الكلام، و أما الآن؛ فقد كثرت البدع، فلا سبیل إلی ترك أمواج الفتن تلتطم" .. إلی أن قال:" و الحاصل أن السلف و الخلف مؤولون؛ لإجماعهم علی صرف اللفظ عن ظاهره. و لكن تأویل السلف إجمالی؛
______________________________
(1) معالم السنن، الخطّابی، 5/ 95.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 121
لتفویضهم إلی اللّه تعالی، و تأویل الخلف تفصیلی؛ لاضطرارهم إلیه لكثرة المبتدعین" «1».

6- شروط التأویل (صحة المعنی .. و قبول اللفظ):

من المعلوم لدی الأصولیین و اللغویین كذلك أن ما یخضع لاحتمال التأویل من حیث المبدأ هو" الظاهر". أی أن" النص" لا یخضع لاحتماله، و هذا هو معنی كونه نصّا.
ثم إن علماء الأصول أطبقوا علی أنه لا یعدل عن الظاهر من اللفظ إلی التأویل إلا حیث یستحیل ذلك الظاهر. و من ثمّ .. فإن المعنی الظاهر یجب صرفه فی الأصل إلی ظاهره دون أی تأویل، إلّا أن یتوافر شرطان اثنان- ذكرهما الشاطبی- فیسوغ التأویل عندئذ.
و أول هذین الشرطین: أن یكون وضع اللفظ قابلا له لغة بوجه من وجوه الدلالة- حقیقة أو مجازا أو كنایة- جاریا فی ذلك علی سنن العربیة.
أی بأن یكون بین اللفظ و المعنی الذی یراد تأویله به ارتباط من الوضع اللغوی، أو عرف الاستعمال، أو عادة صاحب الشرع.
و ثانی هذین الشرطین: صحة المعنی فی الاعتبار، بأن یكون متفقا مع الواقع المعترف به إجمالا عمن یعتد بهم.
فالشرطان:" اللفظ قابل، و المعنی المقصود من التركیب لا یأباه" «2». فتأویل من تأول لفظ" الخلیل" فی قوله تعالی: وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِیمَ خَلِیلًا [سورة النساء: 125] بالفقیر، فإن ذلك یجعل المعنی القرآنی غیر صحیح؛ لأن إبراهیم الذی یقدّم العجل
______________________________
(1) مرقاة المفاتیح شرح مشكاة المصابیح، 1/ 134، و رسالة المحكم و المتشابه.
(2) الموافقات، 3/ 100.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 122
السمین المشوی لضیوفه من عند أهله لا یصح أن یعدّ فقیرا. فهذا غیر صحیح فی الاعتبار، لم یجر علی مقتضی العلم.
قال ابن قتیبة: أیّ فضیلة لإبراهیم فی هذا القول؟ أما یعلمون أن الناس فقراء إلی اللّه؟! و هل إبراهیم فی لفظ خلیل اللّه إلا كما قیل" موسی كلیم اللّه" و" عیسی روح اللّه"؟!
و كذلك تأویل من تأول" غوی" من قوله: وَ عَصی آدَمُ رَبَّهُ فَغَوی [سورة طه: 121] أنه من" غوی"- بالكسر- الفصیل؛ لعدم صحة" غوی" بمعنی" غوی". فهذا لا یصح فیه التأویل من جهة اللفظ، و الأول لا یصح فیه من جهة المعنی «1».

7- حكمة ورود المتشابه:

بیّنا سابقا أن المحكم ما كانت دلالته راجحة، و هو النص و الظاهر. و المتشابه ما كانت دلالته غیر راجحة، و هو المجمل و المؤوّل.
و السؤال الذی یقذف إلی الذهن الآن: ما حكمة ورود المتشابه بهذا المعنی فی القرآن الكریم؟
و نجتزئ فی الجواب عن هذا السؤال بما قاله الزمخشری فی" كشافه":" فإن قلت: فهل كان القرآن كله محكما؟ قلت: لو كان كله محكما؛ لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، و لأعرضوا عما یحتاجون فیه إلی الفحص و التأمل من النظر و الاستدلال. و لو فعلوا ذلك؛ لعطلوا الطریق الذی لا یتوصل إلی معرفة اللّه و توحیده إلا به، لما فی المتشابه من الابتلاء و التمییز بین الثابت علی الحق
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 101.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 123
و المتزلزل فیه، و لما فی تقادح العلماء و إتعابهم القرائح فی استخراج معانیه و رده إلی المحكم من الفوائد الجلیة، و العلوم الجمة، و نیل الدرجات عند اللّه. و لأن المؤمن المعتقد ألّا مناقضة فی كلام اللّه و لا اختلاف إذا رأی فیه ما یتناقض فی ظاهره و أهمّه طلب ما یوفق بینه و یجریه علی سنن واحد، ففكّر و راجع نفسه و غیره، ففتح اللّه علیه و تبین مطابقة المتشابه للمحكم؛ ازداد طمأنینة إلی معتقده فی إیقانه" «1».
______________________________
(1) الكشاف، 1/ 259.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 124

(4) الإحكام و النسخ‌

اشارة

بادئ ذی بدء .. فإن قضیة النسخ فی كتب علوم القرآن و أصول الفقه، قضیة متشعبة كثیرة المسائل و الذیول، مما نحا بعلماء الأصول و القرآن أن یؤلفوا فیها المؤلفات الكثیرة و الواسعة. و من البداهة أننا لن نعرض فی بحثنا هذا لقضیة النسخ برمتها، بل سنجتزئ من ذلك بقضیتین ذكرهما الشاطبی: مدلول النسخ عند الصحابة و التابعین، و أن النسخ لا یدخل القواعد الكلیة وقوعا.

مدلول النسخ:

ذهب الصحابة و التابعون و من بعدهم إلی أن النسخ هو مطلق التغیر الذی یطرأ علی بعض الأحكام فیرفعها لیحل محلها أو یخصص ما فیها من عموم، أو یقید ما فیها من إطلاق. سواء أ كان النص الناسخ عندهم متصلا بالنص المنسوخ، كما فی الاستثناء و التقیید، أم كان منفصلا عنه متأخرا فی النزول، كما فی رفع الحكم عن بعض ما یشمله العام إذا تأخر نزول المخصّص (و هو النسخ الجزئی عند الحنفیة). و فی بیان ذلك یقول الشاطبی:" الذی یظهر من كلام المتقدمین أن النسخ عندهم فی الإطلاق أعم منه فی كلام الأصولیین. فقد كانوا یطلقون علی تقیید المطلق نسخا، و علی تخصیص العموم بدلیل- متصل أو منفصل- نسخا، و علی بیان المبهم و المجمل نسخا .. كما یطلقون علی رفع الحكم الشرعی بدلیل شرعی متأخر نسخا؛ لأن جمیع ذلك مشترك فی معنی واحد، و هو أن النسخ فی الاصطلاح المتأخر اقتضی أن الأمر المتقدم غیر مراد فی التكلیف، و إنما المراد ما جی‌ء به آخرا .. فالأول غیر معمول به، و الثانی معمول به.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 125
و هذا المعنی جار فی تقیید المطلق. فإن المطلق متروك الظاهر مع مقیّده، فلا إعمال له فی إطلاقه، بل المعمل هو المقیّد .. فكأن المطلق لم یفد مع مقیّده شیئا، فصار مثل الناسخ و المنسوخ. و كذلك العام مع الخاص؛ إذ كان ظاهر العام یقتضی شمول الحكم لجمیع ما یتناوله اللفظ، فلما جاء الخاص؛ أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ و المنسوخ، إلا أن اللفظ العام لم یهمل مدلوله جملة، و إنما أهمل منه ما دل علیه الخاص، و بقی السائر علی الحكم الأول .. فلما كان كذلك؛ استسهل إطلاق لفظ النسخ فی جملة هذه المعانی لرجوعها إلی شی‌ء واحد" «1».
ثم یورد الشاطبی بضعا و عشرین قضیة نسخ، رویت عن الصحابة و التابعین، لیستدل بها علی أن مدلول النسخ عند الصحابة كان أوسع منه عند الأصولیین. و نحن نجتزئ بعض هذه القضایا، معقبین علی كل منها برأی جمهور الأصولیین فیها ..
1- أولی هذه القضایا ما روی عن ابن عباس- رضی اللّه عنهما- أنه قال فی قوله تعالی: مَنْ كانَ یُرِیدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِیها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِیدُ [سورة الإسراء:
18] إنه ناسخ لقوله تعالی: مَنْ كانَ یُرِیدُ حَرْثَ الدُّنْیا نُؤْتِهِ مِنْها [سورة الشوری: 20]. و هو علی هذا التحقیق تقیید لمطلق؛ إذ كان قوله: نُؤْتِهِ مِنْها مطلقا، و معناه مقید بالمشیئة (و هو قوله فی الأخری: ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِیدُ).
و إلا .. فهو إخبار، و الأخبار لا یدخلها النسخ «2».
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 108، 109.
(2) الموافقات، 3/ 109.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 126
و یری الأصولیون كذلك أن الآیتین لا تعارض بینهما، و أن ما فی الآیة المدعی أنها ناسخة من قید (المشیئة إنما هو تقیید لما فی الآیة الأخری من إطلاق.
علی أنه قید یجب أن یفهم ضرورة، و لو لم یذكر؛ إذ لا یؤتی اللّه أحدا من حرث الدنیا ما لم یرد ذلك، ضرورة ما هو مقرر من أنه لا یقع فی ملك اللّه عزّ و جلّ إلا ما یشاء.
2- و القضیة الثانیة (و هی أیضا مرویة عن ابن عباس) هی أن قوله تعالی:
وَ الشُّعَراءُ یَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِی كُلِّ وادٍ یَهِیمُونَ وَ أَنَّهُمْ یَقُولُونَ ما لا یَفْعَلُونَ [سورة الشعراء: 224- 226] منسوخ بقوله تعالی بعد ذلك:
إِلَّا الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِیراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا [سورة الشعراء: 227].
و یری الأصولیون أن العلاقة بین الآیتین هی علاقة المستثنی بالمستثنی منه، و لكلّ منهما حكمه الذی یقتضیه عموم المستثنی منه و خصوص المستثنی، و هو شمول الحكم الأول لمن عدا المستثنی أو تخصیص عمومه بطریق الاستثناء، و لیس هذا من النسخ فی شی‌ء.
3- و القضیة الثالثة (و هی مرویة أیضا عن ابن عباس) هی أن قوله تعالی: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ [سورة الأنفال: 1] منسوخ بقوله تعالی فی السورة نفسها:
وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ‌ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساكِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ [سورة الأنفال: 41].
و الأصولیون یرون أن العلاقة بین الآیتین هی علاقة البیان بعد الإجمال، و ذلك بناء علی تفسیر" الأنفال" بالغنائم. أما إن فسّرت" الأنفال" بما یجعله
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 127
الإمام لبعض المقاتلین من سلب قتلاهم؛ فالآیتان لا تعارض بینهما؛ إذ إنهما فی موضوعین مختلفین. و علی كلا التفسیرین لیس بین الآیتین تعارض یسوغ القول بالنسخ.
4- و القضیة الرابعة هی ما روی عن ابن عباس و ابن مسعود- رضی اللّه عنهما- فی قوله تعالی: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِی أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ یُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَیَغْفِرُ لِمَنْ یَشاءُ [سورة البقرة: 284] أنه منسوخ بقوله تعالی بعدها: لا یُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [سورة البقرة: 286]. و هو لیس بمنسوخ، بدلیل أن ابن عباس فسر الآیة بكتمان الشهادة؛ إذ تقدم قوله: وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ [سورة البقرة: 283] ثم قال: وَ إِنْ تُبْدُوا .. الآیة.
و یعلق الشیخ دراز بأن معنی الآیة علی كلام ابن عباس:" إن تبدوا ما فی أنفسكم و ما تعلمونه فی موضوع الشهادة، بأن تقولوا لصاحب الحق نعلم الشی‌ء و لكنا لا نشهد به عند الحكام، أو تخفوه، بألا تطلعوا صاحب الحق علی ما تعلمونه؛ یحاسبكم به اللّه علی كل حال؛ لأنه كتمان للشهادة و مضیع للحق". فیكون قوله: وَ إِنْ تُبْدُوا من باب بیان المجمل لقوله: وَ لا تَكْتُمُوا .. فقد كان یحتمل الأمرین، كما یحتمل أحدهما فقط.
و علیه .. لا تكون آیة لا یُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها مرتبطة بهذه الآیة.
و أما إذا جرینا علی روایة جثوّ الصحابة علی الرّكب لما نزلت وَ إِنْ تُبْدُوا و قولهم: لیس فی وسعنا تنزیه النفس عن الهواجس و الخواطر السیئة، فأنزل اللّه لا یُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها .. إذا جرینا علی هذا؛ فتكون
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 128
آیة لا یُكَلِّفُ مخصصة أو مبینة لإجمال آیة وَ إِنْ تُبْدُوا التی بظاهرها تشمل الهواجس و الخواطر، فنزلت الآیة مخرجة لما عدا العزم الذی فی الوسع اجتنابه «1».
5- القضیة الخامسة (و هی مرویة عن عبد الملك بن حبیب) أن قوله تعالی:
اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [سورة فصلت: 40]، و قوله: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ یَسْتَقِیمَ [سورة التكویر: 28] منسوخان بقوله: وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ یَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِینَ [سورة التكویر: 29].
و یری الأصولیون أن الآیات الثلاث إنما جاءت فی معرض الوعید و التهدید، و هو معنی لا یقبل النسخ؛ إذ لیس فیه حكم تكلیفی، و فی نسخه تكذیب للقواعد .. تعالی اللّه أن یوصف بالكذب.
و بهذا یتبین إسراف بعض العلماء فی ادعاء النسخ- بمعناه المتأخر- فی كتاب اللّه، و ذلك بسبب اشتباه اصطلاح المتقدمین باصطلاح المتأخرین. و من المعلوم فی علوم القرآن و أصول الفقه أن النسخ لا یلجأ إلیه إلا عند التعارض التام بین الآیتین بحیث یستحیل الجمع بینهما.
و بناء علی ذلك .. فإن علاقة الإجمال و التفصیل، و الإبهام و التفسیر، و العموم و الخصوص، و الإطلاق و التقیید، لیست من النسخ فی شی‌ء عند الأصولیین.
و هذا لا یعنی بأی حال رفض ما صحت روایته عن الصحابة و التابعین من قضایا النسخ، و إنما یعنی أنه لا یحق لأحد الاستدلال بهذه القضایا- و فیها تقریر النسخ بمدلوله الواسع عندهم- علی دعاوی النسخ بمدلوله المصطلح علیه عند
______________________________
(1) انظر تعلیق الشیخ عبد اللّه دراز علی الموافقات: 3/ 112.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 129
الأصولیین و الفقهاء؛ إذ إن هذا یناقض الحقیقة البدهیة الواجبة مراعاتها فی مناهج البحث، و هی تحریر المراد (أو تحریر محل النزاع). و من ثمّ .. فلیس من أمانة البحث العلمی أن نورد خبرا عن ابن عباس- أو غیره- یقرر فیه نسخ آیة لأخری، مع أنه لیس بین الآیتین إلا علاقة المستثنی بالمستثنی منه، لنستدل بهذا الخبر علی أن إحدی الآیتین منسوخة بالأخری علی ما اصطلحنا نحن علیه فی تحدید مدلول النسخ أخیرا بأنه رفع تعلق حكم شرعی بدلیل شرعی آخر متأخر عنه.
و بوسعك أن تری هذه الحقیقة التی أوضحتها لك فی هذه العبارة التی وردت علی لسان الشیخ ولی اللّه الدهلوی:" من المواضع الصعبة فی فن التفسیر (التی ساحتها واسعة جدّا، و الاختلاف فیها كثیر) معرفة الناسخ و المنسوخ.
و أقوی الوجوه الصعبة اختلاف اصطلاح المتقدمین و المتأخرین. و ما علم فی هذا الباب، من استقراء كلام الصحابة و التابعین، أنهم كانوا یستعملون النسخ بإزاء المعنی اللغوی الذی هو إزالة شی‌ء بشی‌ء، لا بإزاء مصطلح الأصولیین. فمعنی النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآیة بآیة أخری .. إما بانتهاء مدة العمل، أو بصرف الكلام عن المعنی المتبادر إلی غیر المتبادر، أو بیان كون قید من القیود اتفاقیّا، أو تخصیص عام، أو بیان الفارق بین النصوص و ما قیس علیه ظاهرا، أو إزالة عادة الجاهلیة، أو الشریعة السابقة. فاتسع باب النسخ عندهم، و كثر جولان العقل هنالك، و اتسعت دائرة الاختلاف. و لهذا بلغ عدد الآیات المنسوخة خمسمائة.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 130
و إن تأملت متعمقا؛ فهی غیر محصورة. و المنسوخ باصطلاح المتأخرین عدد قلیل، لا سیما بحسب ما اخترناه من التوجیه" «1».

النسخ لا یكون فی الكلیات وقوعا:

یقرر الشاطبی أن الذی نزل بمكة علی النبی صلی اللّه علیه و سلم من أحكام الشریعة هو ما كان من الأحكام الكلیة- علی غالب الأمر- ثم تبعها أشیاء بالمدینة، كملت بها تلك القواعد التی وضع أصلها بمكة.
ثم یقرر أیضا- بناء علی هذا- أن المنسوخ فی مكة قلیل أو نادر، و علل لذلك بأن النسخ لا یكون فی الكلیات وقوعا، و إن أمكن عقلا «2».
و أما إن الكلیات لا نسخ فیها؛ فدلیله الاستقراء التام، و أن الشریعة مبنیة علی حفظ الضروریات و الحاجیات و التحسینات .. و جمیع ذلك لم ینسخ منه شی‌ء.
قال:" القواعد الكلیة، من الضروریات و الحاجیات و التحسینات، لم یقع فیها نسخ. و إنما وقع النسخ فی أمور جزئیة بدلیل الاستقراء. فإن كل ما یعود بالحفظ علی الأمور الخمسة ثابت، و إن فرض نسخ بعض جزئیاته؛ فذلك لا یكون إلا بوجه آخر من الحفظ، و إن فرض النسخ فی بعضها إلی غیر بدل؛ فأصل الحفظ باق؛ إذ لا یلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس. بل زعم الأصولیون أن الضروریات مراعاة فی كل ملة، و أن اختلاف أوجه الحفظ بحسب كل ملة. و هكذا یقتضی الأمر فی الحاجیات و التحسینات، و قد قال تعالی:
______________________________
(1) الفوز الكبیر فی أصول التفسیر، ص 53.
(2) الموافقات، 3/ 104.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 131
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّینِ ما وَصَّی بِهِ نُوحاً وَ الَّذِی أَوْحَیْنا إِلَیْكَ وَ ما وَصَّیْنا بِهِ إِبْراهِیمَ وَ مُوسی وَ عِیسی أَنْ أَقِیمُوا الدِّینَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِیهِ [سورة الشوری: 13]، و قال تعالی: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف: 35]، و قال بعد ذكر كثیر من الأنبیاء- علیهم السلام-: أُولئِكَ الَّذِینَ هَدَی اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام: 90]" ..
ثم أخذ الشاطبی یسوق بعض الأدلة علی ما ذكر، ثم قال:" .. إلی سائر ما فی ذلك من معانی الضروریات. و كذلك الحاجیات .. فإنا نعلم أنهم لم یكلّفوا بما لا یطاق. هذا .. و إن كانوا قد كلّفوا بأمور شاقة؛ فذاك لا یرفع أصل اعتبار الحاجیات. و مثل ذلك التحسینات" ..
ثم أورد اعتراضا و أجاب عنه .. قال:" و أما قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً [سورة المائدة: 47]؛ فإنه یصدق علی الفروع الجزئیة، و به تجتمع معانی الآیات و الأخبار. فإذا كانت الشرائع قد اتفقت فی الأصول- مع وقوع النسخ فیها- و ثبتت و لم تنسخ؛ فهی فی الملة الواحدة الجامعة لمحاسن الملل أولی" «1».
و صفوة القول أنه لیس كل حكم شرعی بقابل للنسخ. فإن من شروط الحكم المنسوخ أن یكون جزئیّا لا كلیّا، و أن یكون عملیّا لا عقدیّا. فمن الخطأ أن یزعم زاعم أن حكما من الأحكام الكلیة فی الشریعة منسوخ. و مثله أصول العقیدة، و مكارم الأخلاق.
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 117، 118.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 132
لقد شرعت الأحكام الكلیة لتتفرع علیها الجزئیات. فهی أصول تستنبط منها الفروع، و كلیات تبنی علیها الجزئیات، و قواعد تندرج تحتها الفروع .. و ما كانت الأصول الكلیة لتنسخ و هی أساس الجزئیات.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 133

(5) بیان القرآن لما تحته من أحكام‌

لنبدأ أولا بعرض موجز لما قاله الشاطبی فی خصائص القرآن الكریم.
" القرآن- كما تقرر- كلیة الشریعة، و عمدة الملة، و ینبوع الحكمة، و آیة الرسالة، و نور الأبصار و البصائر ... و هذا كله لا یحتاج إلی تقریر و استدلال علیه؛ لأنه معلوم من دین الأمة" «1».
و لا یتهیأ لمن أراد فهمه و الوقوف علی أسراره، و استخلاص أحكام الشریعة الجزئیة، و قواعدها الكلیة، و مقاصدها العامة، إلا بأن یجعله موضوع درسه و نظره، و أن یتدبر آیاته، و یطیل النظر فی معانیه، و یشد الرحال فی اقتناص إشاراته و إدراك تلویحاته.
غیر أنا إنما نرید هنا بالأحكام معنی خاصّا، و هو خصوص الأحكام الشرعیة الجزئیة. و قد اقتصر بعض علماء أصول الفقه علی الحكم التكلیفی فی تعریف الحكم الشرعی، و لكنها طریقة ضعیفة عند الأصولیین، نصّ علی ذلك العلامة الشیخ محمد بخیت المطیعی.
و عرفه ابن الحاجب فزاد الحكم الوضعی، و هو الصواب.
و لعل أمثل التعریف للحكم الشرعی أنه خطاب اللّه المتعلق بأفعال المكلفین بالاقتضاء أو التخییر أو الوضع.
" خطاب اللّه" یقصد به توجیه الخطاب، أی الكلام المخاطب به، و هو كلام اللّه تعالی النفسی القدیم القائم بذاته تعالی. و من ثمّ .. خرج به كل خطاب لغیره سبحانه.
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 346.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 134
قال المحقق الإسنوی:" فإن قیل: إن هذا الحد صحیح من هذا الوجه- أی إضافة الخطاب إلی اللّه: لكن یرد علیه أحكام كثیرة ثابتة بقول النبی صلی اللّه علیه و سلم و بفعله، و بالإجماع، و بالقیاس، و قد أخرجها بقوله" خطاب اللّه"؛ فالجواب أن الحكم هو خطاب اللّه تعالی مطلقا، و هذه الأربعة معرّفات له، لا مثبتات".
" المتعلق بأفعال المكلفین" أی تعلقا معنویّا فی الأزل، و تنجیزیّا بعد البعثة، و وجود المكلف علی شرط التكلیف. و خرج خطاب اللّه المتعلق بالذوات، و الصفات و الجمادات.
" بالاقتضاء" و هو الطلب، فیكون شاملا للفعل و الترك. و الفعل قد یكون جازما و هو الإیجاب، أو غیر جازم و هو الندب، و الترك یكون جازما و هو التحریم، أو غیر جازم و هو الكراهة.
و" الاقتضاء" قید فی التعریف، أخرج خطاب اللّه المتعلق بأفعال المكلفین علی سبیل الإخبار، كما فی قوله تعالی: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ [سورة الصافات: 96].
" أو التخییر" و هو الإباحة، فصارت الأحكام التكلیفیة خمسة، و هی كذلك عند الجمهور.
" أو الوضع" أی جعل الشی‌ء سببا، كالسرقة: سبب فی القطع أو شرطا، كالطهارة: شرط فی الصلاة، أو مانعا، كالسّكر و الجنابة المانعین من الصلاة، أو صحیحا فتترتب علیه آثاره، أو فاسدا فلا تترتب. و هی أیضا خمسة.
إذن .. تعلّق الخطاب فی الفعل علی وجه الطلب أو التخییر یسمی حكما تكلیفیّا، و تعلقه به علی وجه الوضع یسمی حكما وضعیّا، و الحكم التكلیفی لا یتعلق إلا بالمكلف، و الوضعی یتعلق بالإنسان، سواء أ كان مكلفا أم لا
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 135
(كالصبی و المجنون .. فإنهما یثبت فی حقهما الحكم الوضعی، كصحة بیع الصبی، و ضمان متلفاتهما، أو ثبوت الدّین فی ذمتهما).
أما الفقهاء؛ فیجعلون الحكم الشرعی مدلول ذلك الخطاب، أو قل: صفة فعل المكلف. فالحكم عند الأصولیین هو" الإیجاب" الذی هو صفة قائمة بذاته تعالی. و" الوجوب"، الذی هو صفة فعل المكلف، هو الحكم عند الفقهاء.
یقول العلامة الشیخ بخیت المطیعی:" و العجب أن بعض المتأخرین ممن تصدی للكتابة فی علم الأصول قد تشبث بما قاله أولئك المتأخرون من الأشاعرة، و عرف الحكم بما عرفوه به. غیر أن فریقا من الحنفیة فسروا الحكم بما ثبت بالخطاب اللفظی، و سلكوا طریق المحققین" «1».
و لنقف عند هذا الحد فی بیان المراد من الأحكام التی عنی القرآن الكریم ببیانها، لنبدأ بإیضاح منهج القرآن- كما عرضه الشاطبی- فی سیاق أحكامه.
و یتلخص هذا المنهج فی نظریتین:
إحداهما: أن القرآن أتی جامعا للأحكام بطریقة كلیة إجمالیة، دون النظر إلی واحد من أقسام الأحكام الشرعیة.
هذا ما نص علیه الشاطبی بقوله:" تعریف القرآن بالأحكام الشرعیة أكثره كلی لا جزئی، و حیث جاء جزئیّا، فمأخذه علی الكلیة .. إما بالاعتبار (أو بمعنی الأصل، إلا ما خصه الدلیل، مثل خصائص النبی صلی اللّه علیه و سلم). و یدل علی هذا المعنی- بعد الاستقراء المعتبر- أنه محتاج إلی كثیر من البیان .. فإن السنة، علی
______________________________
(1) انظر: حاشیة نهایة السول، للإسنوی 1/ 69 و ما بعدها، و الإحسان فی علوم القرآن، 297، 298.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 136
كثرتها و كثرة مسائلها، إنما هی بیان للكتاب كما سیأتی ... و إذا كان كذلك؛ فالقرآن علی اختصاره جامع. و لا یكون جامعا إلا و المجموع فیه أمور كلیة".
ثم ذكر أن السنة جاءت مفسرة لأحكامه الكلیة. و لذا .. تضمن القرآن الكلیات المعنویة علی الكمال، و هی الضروریات و الحاجیات و التحسینات، و كذلك أتی بأصول العبادات و المعاملات. فكل ما استنبط من الأحكام بالسنة أو الإجماع أو القیاس؛ فإنما نشأ عن القرآن. و استدل لذلك.
ثم ذكر أیضا أنه" لا ینبغی فی الاستنباط الاقتصار علی القرآن دون النظر فی شرحه و بیانه، و هو السنة؛ لأنه إذا كان كلیّا؛ فلا محیص من النظر فی بیانه" «1».
و قبل أن ننهی الحدیث عن النظرة الأولی لا بدّ أن نقف بالقارئ علی أنه" لو لا كلیة التناول للأحكام؛ لتضخم القرآن، و عسر علی الأمة حفظه. و لو لا هذه الكلیة؛ ما اتصف القرآن بالمرونة و الصلاحیة لكل عصر و كذلك .. لولاها؛ ما حصل علماء المسلمین هذه الرتب العلیة بالاجتهاد" «2».
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 366، 367 و ما بعدها.
(2) و انبه هنا إلی أن اجتهاد المجتهدین إنما یتناول بعض آیات الأحكام التی جاءت بصیغة كلیة، لا یتعین المراد منها (بأن كانت قابلة للاحتمالات، و ذلك مثل القدر الممسوح من الرأس فی آیة الوضوء).
أما إذا جاءت آیات الأحكام بصیغة قاطعة الدلالة علی معناها؛ فلا محل للاجتهاد حینئذ، و ذلك كآیات وجوب الصلاة، و حرمة الزنا و القذف، و غیر ذلك.
و ثمرة الفرق بین النوعین تتجلی فی أن الأول ثابت، فمن أنكره؛ یكون خارجا عن الملة .. بخلاف الثانی .. فهو متغیر، فمن أنكر فیه فهما معینا تحتمله الآیة كما تحتمل غیره من الاجتهادات؛ لا یكون كذلك. و أن الأول واجب الاتباع عینیّا علی كل مكلف، بخلاف الثانی .. فإن كل مجتهد
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 137
فمجی‌ء القرآن بالمفاهیم الكلیة لتشریع الأحكام فی الأعم الأغلب یومئ من قبل منزّله الحكیم إلی المجتهدین فی أی عصر أن یسلكوا هذا المنهج التشریعی فی استنباطهم الأحكام التشریعیة، و ذلك بأن ینزلوا المفهوم الكلی علی ما یتحقق فیه. و هذا ما یسمی عند الأصولیین بتحقیق المناط.
و بناء علی ذلك .. فإنه لا انفصال بین الجزئی و الكلی من المفاهیم القرآنیة.
فالاستنباط من قبل الأئمة المجتهدین إنما هو تطبیق لكلیات من المفاهیم العامة و المطلقة علی الجزئیات.
و فی ذلك یقول الشاطبی:" إن الجزئیات لو لم تكن معتبرة فی إقامة الكلیات؛ لم یصح الأمر بالكلی من أصله؛ لأن الكلی- من حیث هو كلّ- لا یصح القصد فی التكلیف إلیه؛ لأنه راجع لأمر معقول لا یحصل فی الخارج إلا فی ضمن الجزئیات. فتوجه القصد إلیه من حیث التكلیف به توجه إلی تكلیف ما لا یطاق .. و ذلك ممنوع الوقوع. فإذا كان لا یحصل الكلی إلا بحصول الجزئیات؛ فالقصد الشرعی متوجه إلی الجزئیات" «1».
أما ثانیة النظرتین؛ فهی أن القرآن أتی بأحكام مفصلة. و هذا هو القلیل فی تناوله للأحكام و یتمثل فیما قاله العز بن عبد السلام:" معظم آی القرآن لا یخلو عن أحكام مشتملة علی آداب حسنة، و أخلاق جمیلة. ثم .. من الآیات ما صرح
______________________________
یتبع فیه ما وصل إلیه؛ إذ یحرم علیه أن یترك یقین ما عنده لظن ما عند الناس. و كذلك المقلد ..
یتبع فیه رأی من شاء تقلیده من أهل الاجتهاد.
(1) الموافقات، 2/ 62.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 138
فیه بالأحكام، و منها ما یؤخذ بطریق الاستنباط .. إما بلا ضم إلی آیة أخری، كاستنباط صحة أنكحة الكفار من قوله: وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [سورة المسد: 4]، و صحة صوم الجنب من قوله: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ إلی قوله: حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَكُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة: 187] .. و إما مع ضم، كاستنباط أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [سورة الأحقاف: 15] مع قوله: وَ فِصالُهُ فِی عامَیْنِ [سورة لقمان: 14]".
قال:" و یستدل علی الأحكام تارة بالصیغة، و هو ظاهر. و تارة بالإخبار، مثل أُحِلَّ لَكُمْ [سورة البقرة: 187]، حُرِّمَتْ عَلَیْكُمُ الْمَیْتَةُ [سورة المائدة: 3]، كُتِبَ عَلَیْكُمُ الصِّیامُ [سورة البقرة: 183].
و تارة بما رتب علیها فی العاجل أو الآجل من خیر أو شر أو نفع أو ضر.
و قد نوّع الشارع ذلك أنواعا كثیرة .. ترغیبا لعباده و ترهیبا، و تقریبا إلی أفهامهم.
فكل فعل عظمه الشرع، أو مدحه أو مدح فاعله لأجله، أو أحبه أو أحب فاعله، أو رضی به أو رضی عن فاعله، أو وصفه بالاستقامة أو البركة أو الطّیب، أو أقسم به أو بفاعله (كالإقسام بالشفع و الوتر، و بخیل المجاهدین، و بالنفس اللوامة)، أو نصبه سببا لذكره لعبده أو لمحبته، أو لثواب عاجل أو آجل، أو لشكره له، أو لهدایته إیاه، أو لإرضاء فاعله، أو لمغفرة ذنبه و تكفیر سیئاته، أو لقبوله، أو لنصرة فاعله، أو بشارته، أو وصف فاعله بالطیب، أو وصف الفعل بكونه معروفا، أو نفی الحزن و الخوف عن فاعله، أو وعده بالأمن، أو نصبه سببا لولایته، أو أخبر عن دعاء الرسول بحصوله، أو وصفه بكونه قربة،
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 139
أو بصفة مدح (كالحیاة و النور و الشفاء)؛ فهو دلیل علی مشروعیته المشتركة بین الوجوب و الندب.
و كل فعل طلب الشارع تركه، أو ذمه أو ذم فاعله، أو عتب علیه، أو مقت فاعله أو لعنه، أو نفی محبته أو محبة فاعله أو الرضا به أو عن فاعله، أو شبّه فاعله بالبهائم أو بالشیاطین، أو جعله مانعا من الهدی أو من القبول، أو وصفه بسوء أو كراهیة، أو استعاذ الأنبیاء منه أو أبغضوه، أو جعله سببا لنفی الفلاح، أو لعذاب عاجل أو آجل، أو لذمّ أو لوم أو ضلالة أو معصیة، أو وصف بخبث أو رجس، أو لعن أو غضب، أو زوال نعمة، أو حلول نقمة، أو حدّ من الحدود، أو قسوة أو خزی أو ارتهان نفس، أو لعداوة اللّه و محاربته، أو لاستهزائه أو سخریته، أو جعله اللّه سببا لنسیانه فاعله، أو وصفه نفسه بالصبر علیه أو بالحلم، أو بالصفح عنه، أو دعا إلی التوبة منه، أو وصف فاعله بخبث أو احتقار، أو نسبه إلی عمل الشیطان أو تزیینه، أو تولی الشیطان لفاعله، أو وصفه بصفة ذم (ككونه ظلما أو بغیا أو عدوانا أو إثما أو مرضا)، أو تبرأ الأنبیاء منه أو من فاعله، أو شكوا إلی اللّه من فاعله، أو جاهروا فاعله بالعداوة، أو نهوا عن الأسی و الحزن علیه، أو نصب سببا لخیبة فاعله عاجلا أو آجلا، أو رتب علیه حرمان الجنة و ما فیها، أو وصف فاعله بأنه عدو اللّه، أو بأن اللّه عدوه، أو أعلم فاعله بحرب من اللّه و رسوله، أو حمّل فاعله إثما، أو قیل فیه" لا ینبغی هذا" أو" لا یكون"، أو أمر بالتقوی عند السؤال عنه، أو أمر بفعل مضاده، أو بهجر فاعله، أو تلاعن فاعلوه فی الآخرة، أو تبرأ بعضهم من بعض، أو دعا بعضهم علی بعض، أو وصف فاعله بالضلالة، أو أنه لیس من اللّه فی شی‌ء، أو لیس من الرسول و أصحابه، أو جعل اجتنابه سببا للفلاح، أو جعله سببا لإیقاع العداوة
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 140
و البغضاء بین المسلمین، أو قیل فیه" هل أنت منته"، أو نهی الأنبیاء عن الدعاء لفاعله، أو رتب علیه إبعادا أو طردا أو لفظة" قتل من فعله" أو" قاتله اللّه"، أو أخبر أن فاعله لا یكلمه اللّه یوم القیامة و لا ینظر إلیه و لا یزكیه، و لا یصلح عمله و لا یهدی كیده، أو لا یفلح، أو قیض له الشیطان، أو جعل سببا لإزاغة قلب فاعله، أو صرفه عن آیات اللّه و سؤاله عن علة الفعل؛ فهو دلیل علی المنع من الفعل. و دلالته علی التحریم أظهر من دلالته علی مجرد الكراهیة.
و تستفاد الإباحة من لفظ الإحلال، و رفع الجناح و الحرج و الإثم و المؤاخذة، و من الإذن فیه، و العفو عنه، و من الامتنان بما فی الأعیان من المنافع، و من السكوت عن التحریم، و من الإنكار علی من حرم الشی‌ء مع الإخبار بأنه خلق أو جعل لنا، و الإخبار عن فعل من قبلنا من غیر ذم لهم علیه (فإن اقترن بإخباره مدح؛ دل علی مشروعیته وجوبا أو استحبابا)". انتهی كلام الشیخ عز الدین «1».
و بعد ... فأحب أن أزیدك خاصتین من خواص القرآن الكریم لا تراها لغیره فی بیان نهجه للأحكام ...
أولا: أن بیانه لتلك الأحكام لم یكن علی سنن البیان المعروف فی القوانین الوضعیة، بأن یذكر الأوامر و النواهی جافة مجردة عن معانی الترغیب أو الترهیب. و إنما یسوقها مكتنفة بأنواع من المعانی شأنها أن تخلق فی نفوس المخاطبین الهیبة و المراقبة و الارتیاح، و الشعور بالفائدة العاجلة و الآجلة ..
فیدعوهم كل هذا إلی المسارعة إلیها، و امتثال الأمر نظرا إلی واجب الإیمان،
______________________________
(1) الإتقان فی علوم القرآن، للسیوطی، ط. أبو الفضل إبراهیم، 4/ 35: 37.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 141
و بداعیة الخوف من عقاب اللّه و غضبه، و الطمع فی ثوابه و رضاه. و هذا هو الوازع الدینی الذی تمتاز بغرسه فی النفوس الشرائع السماویة، و هو بلا شك أكبر عون للوازع الزمنی فی الحصول علی مهمته.
ثانیا: لم ینهج القرآن فی ذكره لآیات الأحكام منهج الكتب المؤلفة، التی تذكر الأحكام المتعلقة بشی‌ء واحد فی مكان واحد. و إنما فرق آیات الأحكام تفریقا. و قد یورد ما یتعلق بالطلاق و الرضاع و أحكامها و ما یتعلق بالخمر و حرمتها، فیما بین ما یتعلق بالقتال و شئون الیتامی، و انظر فی ذلك قوله تعالی:
حافِظُوا عَلَی الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطی [سورة البقرة: 238]، حیث إنها وقعت بین آیات الطلاق و ما یتعلق به. ثم .. انظر إلی قوله تعالی: یَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ [سورة البقرة: 219]، و ما قبلها من آیات القتال و الردة، و ما بعدها من آیات الیتامی و نكاح المشركات. ثم انظر إلی آیات الحج التی ذكر بعضها فی سورة البقرة و البعض الآخر فی سورة الحج. و كذلك تجد أحكام الطلاق و الزواج و الرجعة ذكر بعضها فی سورة البقرة، و بعضها فی سورة النساء، و بعضها فی سورة الطلاق. و هكذا تجد القرآن فی ذكره لآیات الأحكام أشبه شی‌ء ببستان فرقت ثماره و أزهاره فی جمیع نواحیه حتی یأخذ الإنسان أنی شاء ما ینفعه و ما یشتهیه من ألوان مختلفه و أزهار متباینة و ثمار یعاون بعضها بعضا فی الروح العام الذی یقصده، و هو روح التغذیة بالنافع و الهدایة إلی الخیر ..
و لهذه الطریقة فیما نری إیماء خاص .. و هو أن جمیع ما فی القرآن، و إن اختلفت أماكنه و تعددت سوره و أحكامه، فهو وحدة عامة .. لا یصح تفریقه فی
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 142
العمل، و لا الأخذ ببعضه دون بعض، و كأنه- و قد سلك هذا المسلك- یقول للمكلف و هو یحدثه عن شئون الأسرة و أحكامها مثلا: لا تشغلك أسرتك و شئونها عن مراقبة اللّه.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 143

(6) القرآن فیه بیان كل شی‌ء و لو بنوعه أو بجنسه‌

یقرر الشیخ الشاطبی أن القرآن فیه بیان كل شی‌ء؛ لأن تعریفه بالأحكام الشرعیة أكثره كلی أو جزئی مأخوذ علی الكلیة .. إما بالاعتبار، أو بمعنی الأصل (القیاس).
و استدل علی ذلك بأمور:
أولا: النصوص القرآنیة، من نحو قوله تعالی: الْیَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِینَكُمْ [سورة المائدة: 3]، و قوله: وَ نَزَّلْنا عَلَیْكَ الْكِتابَ تِبْیاناً لِكُلِّ شَیْ‌ءٍ [سورة النحل: 89]، إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ یَهْدِی لِلَّتِی هِیَ أَقْوَمُ [سورة الإسراء: 9]، یعنی الطریقة المستقیمة (و هی النظام الكامل فی معاملة الخالق و الخلق).
ثانیا: ما جاء فی الأحادیث و الآثار المؤذنة بذلك المعنی «1».
ثالثا: التجربة، و هو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلی القرآن فی مسألة إلا وجد لها فیه أصلا. و أقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظواهر، الذین ینكرون القیاس، و لم یثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدلیل فی مسألة من المسائل.
ثم ذكر اعتراضا و أجاب عنه فقال:" و لقائل أن یقول: إن هذا غیر صحیح؛ لما ثبت فی الشریعة من المسائل و القواعد غیر الموجودة فی القرآن، و إنما وجدت فی السنة".
______________________________
(1) ذكر الشاطبی طرفا من هذه الأحادیث، فانظرها- إن شئت- فی الموافقات.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 144
ثم قال:" و الجواب مذكور فی الدلیل الثانی، و هو السنة" .. و عصارته: أن القرآن دال علی السنة حیث كان متضمنا لكلیاتها فی الجملة، و إن كانت بیانا له فی التفصیل.
و بیان ذلك: أن امرأة من بنی أسد أتت عبد اللّه بن مسعود رضی اللّه عنه فقالت له:
بلغنی أنك لعنت كذا و كذا .. و إننی قد قرأت ما بین اللوحین، فلم أجد الذی تقول!
فقال لها عبد اللّه: أما قرأتی قوله تعالی: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ [سورة الحشر: 7]؟
قالت: بلی.
قال: فهو ذاك. إلی غیر ذلك من الأمثلة التی ذكرها الشاطبی «1». ثم قال:
" و علی هذا .. لا بدّ فی كل مسألة یراد تحصیل علمها علی أكمل الوجوه أن یلتفت إلی أصلها فی القرآن .. فإن وجدت منصوصا علی عینها، أو ذكر نوعها، أو جنسها؛ فذاك. و إلا .. فمراتب النظر فیها متعددة" «2».
______________________________
(1) انظر: الموافقات، 3/ 366، 4/ 24 و ما بعدها.
(2) الموافقات، 3/ 375.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 145

(7) وقوع الحكایات فی القرآن الكریم‌

قال الشاطبی:" كل حكایة وقعت فی القرآن .. فإما أن یشتمل مع ذلك علی التنبیه علی كذب المحكی و بطلانه، أو لا یشتمل علی ذلك، بل یظل ساكتا عن الحكم فیه بشی‌ء. فإن كان الأول؛ فلا إشكال فی بطلان ذلك المحكیّ و كذبه، و هذا لا یحتاج إلی برهان علیه. و إن كان الثانی؛ فإقرار القرآن له و سكوته عن التنبیه علیه بكذب، أو بطلان دلیل علی صدقه و صحته؛ لأن اللّه سمی القرآن فرقانا و تبیانا لكل شی‌ء، و هو حجة اللّه علی الخلق علی الجملة و التفصیل و الإطلاق و العموم، و هذا المعنی یأبی أن یحكی فیه ما لیس بحق ثم لا ینبه علیه" «1».
و لبیان هذین الأمرین نسوق لكل نوع طائفة من الأمثلة التی ذكرها الشاطبی.
أمثلة النوع الأول: المثال الأول: قال تعالی: إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلی بَشَرٍ مِنْ شَیْ‌ءٍ [سورة الأنعام: 91]، و هو قول الیهود اعتراضا منهم علی نزول القرآن علی النبی صلی اللّه علیه و سلم، فنبه اللّه علی كذبهم بقوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِی جاءَ بِهِ مُوسی نُوراً وَ هُدیً لِلنَّاسِ [سورة الأنعام: 91].
و المثال الثانی: قوله تعالی: وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا یَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَ أَنْعامٌ لا یَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَیْهَا افْتِراءً عَلَیْهِ
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 353، 354.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 146
[سورة الأنعام: 138]، ثم أعقب ذلك ردّا علیهم بقوله: سَیَجْزِیهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِیمٌ عَلِیمٌ [سورة الأنعام: 139].
و بیان ذلك أن المشركین أفرزوا نصیبا من أموالهم من الزرع و الأنعام فجعلوها حبسا محجورة، لا یتصرفون فیها لأنفسهم، ثم قسموها أقساما .. فمنها ما خصوا به خدّام أصنامهم، و فیها من الأنعام ما سیّبوه و امتنعوا عن ركوبه و استخدامه حسبة لأصنامهم، و منها ما لا یذكرون اسم اللّه علیه عند ذبحه، بل یذكرون علیه اسم أصنامهم دونه، و كل ذلك جهالة و ضلال و افتراء علی اللّه ..
فلذلك رد اللّه علیهم شرعیة صنیعهم، و سماه افتراء، و توعدهم بالعذاب علیه.
المثال الثالث: قال تعالی: وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِیباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا یَصِلُ إِلَی اللَّهِ وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ یَصِلُ إِلی شُرَكائِهِمْ [سورة الأنعام:
136]، ثم عقب علی هذا بقوله: ساءَ ما یَحْكُمُونَ.
و بیان معنی القول الكریم أن المشركین أفرزوا من أموالهم مما خلق اللّه لهم من الزرع و الأنعام نصیبا قسموه قسمین: قسما جعلوه فی سبیل اللّه للضیفان و المساكین، و قسما جعلوه فی خدمة أصنامهم .. فإذا فضل فضل من المال مما جعلوه للّه؛ أضافوه لخدمة أصنامهم، و إذا فضل فضل من المال مما جعلوه لشركائهم؛ لم یضیفوه لما جعل إحسانا فی سبیل اللّه. و لا شك أن هذا العمل بهذه الصورة خطأ و باطل .. فنبه القرآن بعد حكایته علی أنه من سوء الحكم و باطل المعتقد.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 147
المثال الرابع: قال تعالی: وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِینَ كَفَرُوا لِلَّذِینَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ یَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [سورة یس: 47] استهزاء بالمؤمنین و تعنیتا لهم .. فرد اللّه علیهم بقوله: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِی ضَلالٍ مُبِینٍ [سورة یس: 47].
و اختلفت طریقة المشایخ فی بیان كونهم بهذا القول فی ضلال مبین .. فذهب الشاطبی إلی أن هذا القول منهم إنما كان حیدة عن سنن الجواب الصحیح.
فقد كان طریق الجواب الصحیح الامتثال أو عدم الامتثال، بقول" نعم" أو" لا" .. لكنهم عدلوا عن ذلك إلی الاحتجاج بالمشیئة الإلهیة التی لا تعارض، فقالوا: لم یشأ اللّه أن یطعمهم؛ فلا قدرة لنا علی إطعامهم! فانقلب هذا الاحتجاج علیهم: إذا احتججتم بالمشیئة الإلهیة المطلقة التی لا تعارض؛ فكیف أقدمتم علی معارضة مشیئته بالامتناع عما كلفكم به من إطعامهم؟ فهل هذا إلا التناقض المبین، و هو عین الضلال المبین؟ «1».
و ذهب الإمام الرازی إلی أن المقصود من قولهم: أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ یَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ أحد احتمالین ..
أحدهما: أن یكون إشارة إلی أن اللّه إن شاء أن یطعمهم؛ كان یطعمهم .. فلا نقدر علی إطعامهم؛ لأنه حینئذ من تحصیل الحاصل. و إن شاء عدم إطعامهم؛ فلا یقدر أحد علی إطعامهم؛ فإطعامهم- المأمور به- غیر مقدور لهم علی كلّ من الفرضین .. فكیف یؤمرون بما لا تتسع له قدرتهم؟
______________________________
(1) انظر: الموافقات و حاشیة الشیخ دراز، 3/ 357.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 148
و ثانیهما: أن یكون معنی كلامهم هو أن اللّه أراد تجویع هؤلاء بعدم إطعامهم .. فلو أطعمناهم؛ یكون سعیا فی إبطال فعل اللّه و أنه لا یجوز.
ثم أجاب بقوله:" إن هؤلاء المشركین نظروا بمقالتهم هذه إلی إرادة الأمر، و لم ینظروا إلی الأمر و الطلب. و ذلك أن السید إذا أمر العبد بأمر لا ینبغی أن یكشف له سبب الأمر، و الاطلاع علی المقصود الذی أمر لأجله. مثاله: الملك إذا أراد الركوب للهجوم علی عدو بحیث لا یطلع علیه أحد، و قال لعبده: أحضر المركوب .. فلو تطلع العبد، و استكشف المقصود الذی لأجله كان الركوب؛ لنسب إلی أنه یرید أن یطلع عدوه علی الحذر منه، و كشف سره. قال: فالأدب فی الطاعة هو اتباع الأمر، لا تتّبع المراد. فاللّه إذا قال: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ [سورة یس: 47]؛ فلا یجوز لهم أن یقولوا: لم لم یطعمهم اللّه مما فی خزائنه؟" «1».
یقول الأستاذ الجلیل سعاد جلال:" و الذی یظهر لنا من وراء ما یقول هؤلاء الأئمة فی رد إشكال قول المشركین فی هذه الآیة أن نقول: لیس من الصحیح أن اللّه لم یشأ إطعام أولئك المساكین المطلوب إطعامهم. و المشركون غالطون فی نسبة هذه الدعوی إلی اللّه. بل إن اللّه یشاء إطعامهم، بدلیل قوله فی آیة أخری وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِی الْأَرْضِ إِلَّا عَلَی اللَّهِ رِزْقُها [سورة هود: 6]، فأثبت بهذه الآیة أنه ألزم نفسه برزق جمیع أفراد الإنسان و كلّ من له حركة یدب بها علی الأرض، و لم یزل- سبحانه- قیوما بهذا الالتزام، لكنه جعل رزق الفقراء و العاجزین مقتطعا من أموال الأغنیاء. فملكیة الأغنیاء فی أموالهم مكفوفة عما
______________________________
(1) التفسیر الكبیر، الفخر الرازی، ط. دار الكتب العلمیة، 26/ 75، 76.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 149
جعله اللّه حقّا للفقراء فی هذه الأموال، فمقدار هذا الحق غیر مملوك لهم علی الحقیقة. فحاجة الفقراء إلی الإطعام غیر ناشئة عن عدم مشیئة اللّه إطعامهم لأنه- سبحانه- لم یشأ إطعامهم، بل هی ناشئة من حبس هؤلاء المشركین طعام الفقراء عنهم بغیر حق. فاعتراض هؤلاء المشركین بوضع مسئولیة حرمان الفقراء علی مشیئة اللّه مردود علیهم، من حیث تقع مسئولیة ذلك علیهم أنفسهم" «1».
أمثلة النوع الثانی: و أما النوع الثانی من حكایات القرآن (و نذكّر بأنه ما حكاه القرآن من الأحداث و سكت عن تفنیده، فكان مصادقة علیه .. بخلاف النوع الأول)؛ فأمثلته كثیرة ..
منها ما حكاه القرآن الكریم من شریعة بنی إسرائیل و سكت عنه، كقوله تعالی: وَ كَتَبْنا عَلَیْهِمْ فِیها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَیْنَ بِالْعَیْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ [سورة المائدة: 45].
و منها قوله فی حكایة قصة أهل الكهف: سَیَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ یَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَیْبِ وَ یَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [سورة الكهف: 22] .. ففی هذه الآیة شاهد علی النوع الأول، و شاهد علی النوع الثانی.
______________________________
(1) علم الفقه و الأصول، ص 28.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 150
و بیان ذلك أن حكایة كون الكلب رابع الجماعة أو سادسهم، نبه القرآن علی أن ذلك رجما بالغیب .. فأفاد أنهم لیسوا خمسة و لا ستة؛ لأن الحكم إذا كان رجما بالغیب؛ كان ظنّا، و الظن لا یركن إلیه.
و فی حكایة كون أصحاب الكهف سبعة ثامنهم كلبهم، سكت عن الاعتراض .. فأفاد أن عددهم سبعة أنفس. و قد عقب القرآن علی ذكر التردید فی عددهم بقوله: ما یَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِیلٌ [سورة الكهف: 22]. قال ابن عباس:" أنا من القلیل الذی یعلمهم".
قال الشاطبی:" و ینضم إلی ذلك جمیع ما یحكیه القرآن من أخبار الأنبیاء الماضین و الأولیاء المتقدمین، كخبر الخضر مع موسی علیه السّلام، و نبأ ذی القرنین" «1».
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 354.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 151

(8) التناسب بین بعض القرآن و بعض‌

إن الهدف الذی قصد إلیه الشاطبی فی هذه المسألة هو إبراز التناسب بین بعض القرآن و بعض، و ذلك من خلال أن السورة القرآنیة مهما تعددت قضایاها فهی كلام واحد مرتبط أوله بآخره، و آخره بأوله، و من خلال تعلق الجمل بعضها ببعض فی القضیة الواحدة، و أنه لا غنی لمستفهم نظم السورة عن استیفاء النظر فی جمیعها، كما لا غنی عن ذلك فی أجزاء القضیة.
و عدّ الشاطبی هذا ضابطا یعول علیه فی فهم سور القرآن، و حذر من الإغراق فی النظر فی الآیات علی أنها منفصلة تماما عن غیرها. فمن فعل هذا؛ فلن یحصل له إلا فهم الظواهر بحسب الوضع اللغوی فقط، لا بحسب مقصود المتكلم .. قال:" لا بدّ من ضابط یعول علیه فی مأخذ الفهم. و القول فی ذلك أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال و الأوقات و النوازل، و هذا معلوم فی علم المعانی و البیان. فالذی یكون علی بال من المستمع و المتفهم الالتفات إلی أول الكلام و آخره بحسب القضیة و ما اقتضاه الحال فیها، لا ینظر فی أولها دون آخرها، و لا فی آخرها دون أولها .. فإن القضیة و إن اشتملت علی جمل؛ فبعضها متعلق بالبعض؛ لأنها قضیة واحدة نازلة فی شی‌ء واحد فلا محیص للمتفهم عن رد آخر الكلام علی أوله، و أوله علی آخره، و إذ ذاك یحصل مقصود الشارع فی فهم المكلف. فإن فرق النظر فی أجزائه؛ فلا یتوصل به إلی مراده. فلا یصح الاقتصار فی النظر علی بعض أجزاء الكلام دون بعض، إلا فی موطن واحد،
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 152
و هو النظر فی فهم الظاهر بحسب اللسان العربی و ما یقتضیه، لا بحسب مقصود المتكلم، فإذا صح له الظاهر علی العربیة؛ رجع إلی نفس الكلام" «1».
ثم یقرر أن سور القرآن إما أن تكون نزلت فی قضیة واحدة- طالت أم قصرت- و إما أن تكون قد نزلت دفعة واحدة، أو علی دفعات متعددة.
فیمكن النظر فی كل قضیة من هذه القضایا المتعددة من أجل تلمس العلم و الفقه. و لكننا لا یمكننا إدراك وجه الإعجاز إلا بالنظر إلیها باعتبار النظم، و بالنظر فی أوّل الكلام و آخره بحسب تلك الاعتبارات .. فسورة البقرة- مثلا- كلام واحد باعتبار النظم، و احتوت علی أنواع من الكلام بحسب ما بث فیها، منها ما هو كالمقدمات و التمهیدات بین یدی الأمر المطلوب، و منها ما هو كالمؤكّد و المتمّم، و منها ما هو المقصود فی الإنزال (و ذلك- أی المقصود الأول فی الإنزال- هو تقدیر الأحكام علی تفاصیل الأبواب)، و منها الخواتیم العائدة علی ما قبلها بالتأكید و التثبیت و ما أشبه ذلك «2».
ثم ضرب مثلا آخر مطوّلا بسورة" المؤمنون"، حیث نزلت فی قضیة واحدة، و إن اشتملت علی قضایا متعددة، فهی سورة مكیة، و غالب القرآن المكی یقرر ثلاثة معان (ترجع فی حقیقتها إلی معنی واحد، هو" الدعوة إلی عبادة اللّه"):
أحدها: تقریر الوحدانیة للّه الواحد الحق، و نفی الشركاء عنه.
و الثانی: تقریر نبوة محمد صلی اللّه علیه و سلم.
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 413، 414.
(2) الموافقات، 3/ 414، 415.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 153
و الثالث: إثبات البعث، و أنه حق لا ریب فیه.
فهذه هی المعانی الثلاثة التی علیها مدار القرآن المكی. أما بیان ذلك بالتفصیل فی سورة المؤمنون؛ فیری الشاطبی" أن المعانی الثلاثة موجودة فیها علی أوضح الوجوه، إلا أنه غلب علی نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوة التی هی المدخل للمعنیین السابقین، و إنما أنكروا ذلك ترفعا منهم أن یرسل اللّه عزّ و جلّ إلیهم من هو مثلهم أو ینال هذه الرتبة غیرهم .. فجاءت السورة مبینة كمال البشریة، و كیف أنها تستحق الاصطفاء و الرفعة، فافتتحت بثلاث جمل: بیان من أفلح من المؤمنین و صفاتهم، ثم انتقلت إلی بیان أصل الإنسان، ثم ذكرت نعم اللّه التی أعطاها للإنسان و سخرها له تكریما و تشریفا، ثم ذكرت قصص من تقدم من الأمم مع أنبیائهم و استهزائهم بهم لكونهم بشرا. ففی قصة نوح مع قومه: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ یُرِیدُ أَنْ یَتَفَضَّلَ عَلَیْكُمْ [سورة المؤمنون: 24]، ثم أجمل ذكر قوم آخرین أرسل فیهم رسولا منهم فقالوا: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ یَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ [سورة المؤمنون: 33]، و فی نفس السورة یخبرنا القرآن الكریم برد فرعون و ملئه علی موسی و أخیه هارون- علیهما السلام- لما دعواهم إلی الإیمان باللّه الواحد الأحد، فكان جوابهم: أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَیْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ [سورة المؤمنون:
47].
و كل هذه القصص التی وردت فی سورة المؤمنون هی تسلیة للنبی صلی اللّه علیه و سلم؛ لیعلم أنه لیس بدعا من الرسل، و أن طریقة التكذیب واحدة، و هی" الغض من رتبة النبوة بوصف البشریة" «1».
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 418.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 154
و بعد هذا البیان الإجمالی لسورة المؤمنون یقول الشاطبی:" فسورة المؤمنون قصة واحدة فی شی‌ء واحد. و بالجملة .. فحیث ذكر قصص الأنبیاء- علیهم السلام- كنوح و هود و صالح و لوط و شعیب و موسی و هارون، فإنما ذلك تسلیة لمحمد- علیه الصلاة و السلام- و تثبیت لفؤاده، لما كان یلقی من عناد الكفار و تكذیبهم له علی أنواع مختلفة .. فتذكر القصة علی النحو الذی یقع له مثله، و بذلك اختلف مساق القصة الواحدة بحسب اختلاف الأحوال، و الجمیع واقع لا إشكال فی صحته. و علی حذو ما تقدم من الأمثلة یحتذی فی النظر فی القرآن لمن أراد فهم القرآن" «1».
و صفوة القول أن الشاطبی یدعو إلی النظر فی السورة القرآنیة نظرة كلیة عامة، و ذلك .. بربط آخر الكلام بأوله، فكل سورة من سورة تمثل كما یقول الأستاذ الجلیل الشیخ محمد الغزالی- رحمه اللّه-" وحدة متماسكة، تشدها خیوط خفیة .. تجعل أولها تمهیدا لآخرها، و آخرها تصدیقا لأولها، و تدور السورة كلها علی محور ثابت" «2».
و بعد أن أثبت الشاطبی الوحدة الموضوعیة فی السورة القرآنیة، و ذكر لذلك ضابطا یعول علیه فی فهم القرآن، و أن عدم الأخذ به یؤدی بالمفسر إلی الوقوف عند فقه الألفاظ و الدلالات اللغویة ..
أقول: بعد أن أثبت ذلك، أثبت الوحدة الموضوعیة فی القرآن كلّه .. قال:
" للقرآن مأخذ فی النظر علی أن جمیع سوره كلام واحد، بحسب خطاب
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 419.
(2) نحو تفسیر موضوعی، ص 5.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 155
العباد .. لا بحسبه فی نفسه" «1». ثم بین أن القرآن الكریم كلام واحد فی نفسه، لا تعدد فیه (علی ما هو مسلم به فی علم الكلام). و لكن باعتبار خطاب العباد تنزلا لما هو من معهودهم فیه .. فیصح فی الاعتبار أن یكون كلاما واحدا بالمعنی المتقدم، أی یتوقف فهم بعضه علی بعض بوجه ما، و ذلك أنه یبین بعضه بعضا، حتی إن كثیرا منه لا یفهم معناه حق الفهم إلا بتفسیر موضع آخر أو سورة أخری .. و لأن كل منصوص علیه فیه من أنواع الضروریات مقید بالحاجیات فإذا كان كذلك؛ فبعضه متوقف علی البعض فی الفهم. فلا محالة أن ما هو كذلك؛ فكلام واحد. فالقرآن كله كلام واحد بهذا الاعتبار" «2».
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 420.
(2) نفس المرجع.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 156

(9) التفسیر بالرأی‌

اشارة

بادئ ذی بدء .. فإن علماء القرآن منذ قدیم اختلفوا فی جواز التفسیر بالرأی و امتناعه، و ساق كل فریق أدلته علی ما ذهب إلیه. و قبل أن نذكر عبارة الشاطبی فی هذا المقام نحرر أولا محل النزاع.
اتفق الكل من علماء القرآن و الأصول علی أن تفسیر القرآن بالرأی المذموم ممتنع و حرام، بل كفر صریح إن تعمد صاحبه سوء القصد؛ لأنه تقوّل و افتراء علی اللّه تعالی. و إنما الخلاف بین المختلفین: هل كل تفسیر للقرآن بالرأی یعتبر مذموما، و إن بلغ صاحبه من حسن القصد و رسوخ القدم فی الاجتهاد و علو المرتبة فی العلم ما بلغ .. أو أن بعض ذلك محمود و بعضه مذموم؟
و إلی هذین الملحظین أشار الشاطبی بقوله:" إعمال الرأی فی القرآن جاء ذمه، و جاء أیضا ما یقتضی إعماله" «1»، ثم بین أن الرأی الذی یجب إعماله هو" ما كان جاریا علی موافقة كلام العرب، و موافقة الكتاب و السنة .. فهذا لا یمكن إهمال مثله لعالم بهما" «2»، و استدل علی ذلك بأمور تتجلی فیما یلی:
أحدها: أن الكتاب لا بدّ من القول فیه ببیان معنی، و استنباط حكم، و تفسیر لفظ، و فهم مراد. و لم یأت جمیع ذلك عمن تقدم .. فإما أن یتوقّف دون
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 421.
(2) الموافقات، 3/ 421.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 157
ذلك؛ فتعطل الأحكام كلها أو أكثرها .. و ذلك غیر ممكن. فلا بد من القول فیه بما یلیق.
و الثانی: أنه لو كان كذلك؛ للزم أن یكون الرسول صلی اللّه علیه و سلم مبینا ذلك كلّه بالتوقیف، فلا یكون لأحد فیه نظر و لا قول. و المعلوم أنه صلی اللّه علیه و سلم لم یفعل ذلك ..
فدل علی أنه لم یكلف به علی ذلك الوجه. بل بین منه ما لا یوصل إلی علمه إلا به، و ترك كثیر مما یدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم. فلم یلزم فی جمیع تفسیر القرآن التوقیف.
الثالث: أن الصحابة كانوا أولی بهذا الاحتیاط من غیرهم، و قد علم أنهم فسروا القرآن علی ما فهموا، و من جهتهم بلغنا تفسیر معناه، و التوقیف ینافی هذا. فإطلاق القول بالتوقیف و المنع من الرأی لا یصح.
و الرابع: أن هذا الفرض لا یمكن؛ لأن النظر فی القرآن من جهتین: من جهة الأمور الشرعیة .. فقد سلم القول بالتوقیف فیه، و ترك الرأی و النظر جدلا.
و من جهة المآخذ العربیة .. و هذا لا یمكن فیه التوقیف، و إلا لزم ذلك فی السلف الأولین. و هو باطل. فاللازم عنه مثله «1».
هذا .. و قول الشاطبی" ما یقتضی إعماله"، و قوله بعد ذلك" لا یمكن إهمال مثله لعالم بهما"، دلیل بین علی أن الاجتهاد بالرأی فی القرآن الكریم- اجتهادا قائما علی العلم- أمر مفروض شرعا، لا جائز فحسب، و هذا ما تؤكده قولته من" استحالة الإهمال"، و هذا ما انتهی إلیه المحققون من أئمة التفسیر و الأصول. و سنجتزئ باثنین من أعلامهم- رضوان اللّه علیهم- أحدهما الماوردی، و ثانیهما الإمام الغزالی.
______________________________
(1) الموافقات 3/ 421، 442.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 158
قال الماوردی:" قد امتنع بعض المتحرجین أن یستنبط معانی القرآن باجتهاده، و لو صحبها شواهد، و لم یعارض شواهدها نص صریح. و هذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر فی القرآن و استنباط الأحكام، كما قال تعالی:
لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [سورة النساء: 83] ... و لو صح ما ذهبوا إلیه؛ لم یعلم شی‌ء من الاستنباط، و لما فهم الكثیر من كتاب اللّه". علوم القرآن عند الشاطبی 158 (9) التفسیر بالرأی ..... ص : 156
أما حجة الإسلام الغزالی .. فمن أهم ما استند إلیه، هو حدیث رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلم فی دعائه لابن عباس- رضی اللّه عنهما- بقوله:" اللهم فقهه فی الدین، و علّمه التأویل" .. و هذا هو الاجتهاد بالرأی بعینه. ثم عمل الصحابة. و قد صرح الإمام الغزالی برأیه هذا فی كتابه" الإحیاء" بقوله:" و لا ینبغی أن یفهم منه (أی من حدیث" من فسر القرآن برأیه- أو بما لا یعلم- فلیتبوأ مقعده من النار") أنه یجب ألا یفسر القرآن بالاستنباط و الفكر. فإن من الآیات ما نقل فیها عن الصحابة و المفسرین خمسة معان و ستة، و سبعة، و نعلم أن جمیعها غیر مسموع من النبی صلی اللّه علیه و سلم ..
فیكون ذلك مستنبطا بحسن الفهم، و طول الفكر، و لهذا دعا صلی اللّه علیه و سلم لابن عباس رضی اللّه عنه بقوله: «اللهم فقهه فی الدین و علمه التأویل» «1»" «2».

الرأی المذموم:

قال الشاطبی:" و أما الرأی غیر الجاری علی موافقة العربیة، أو غیر الجاری علی الأدلة الشرعیة؛ فهذا هو الرأی المذموم من غیر إشكال، كما كان مذموما فی القیاس أیضا؛ لأنه تقوّل علی اللّه بغیر برهان .. فیرجع إلی الكذب
______________________________
(1) رواه البخاری بنحوه، حدیث رقم 140.
(2) إحیاء علوم الدین، 1/ 37.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 159
علی اللّه تعالی. و فی هذا القسم جاء من التشدید فی القول بالرأی فی القرآن ما جاء" .. ثم ذكر آثارا فی ذلك، ثم قال فی خاتمتها:" و قد نقل عن الأصمعی (و جلالته فی معرفة كلام العرب معلومة) أنه لم یفسر قط آیة من كتاب اللّه، و إذا سئل عن ذلك لم یجب" «1».
ثم قال:" فالذی یستفاد من هذا الموضع أشیاء ..
منها: التحفظ من القول فی كتاب اللّه تعالی .. إلا علی بینة. فإن الناس فی العلم بالأدوات المحتاج إلیها فی التفسیر علی ثلاث طبقات:
إحداها: من بلغ فی ذلك مبلغ الراسخین، كالصحابة و التابعین و من یلیهم.
و هؤلاء قالوا مع التوقی و التحفظ و الهیبة و الخوف من الهجوم. فنحن أولی بذلك إن ظننا بأنفسنا أنا فی العلم و الفهم مثلهم .. و هیهات!.
الثانیة: من علم من نفسه أنه لم یبلغ مبلغهم و لا داناهم. فهذا طرف لا إشكال فی تحریم ذلك علیه.
الثالثة: من شك فی بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد، أو ظن ذلك فی بعض علومه دون بعض .. فهذا أیضا داخل تحت حكم المنع من القول فیه؛ لأن الأصل عدم العلم .. فعند ما یبقی له شك أو تردد فی الدخول مدخل العلماء الراسخین، فانسحاب الحكم الأول علیه باق بلا إشكال. و كل أحد فقیه نفسه من هذا المجال. و ربما تعدی أصحاب هذه الطبقة طوره، فحسن ظنه بنفسه، و دخل فی الكلام فیه مع الراسخین .. و من هنا افترقت الفرق، و تباینت النحل، و ظهر فی تفسیر القرآن الخلل!.
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 422، 423.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 160
و منها: أن من ترك النظر فی القرآن، و اعتمد فی ذلك علی من تقدمه، و دخل إلیه النظر فیه .. غیر ملوم، و له فی ذلك سعة (إلا فیما لا بدّ له منه، و علی حكم الضرورة). فإن النظر فیه یشبه النظر فی القیاس كما هو مذكور فی بابه، و ما زال السلف الصالح یتحرجون من القیاس فیما لا نص فیه، و كذلك وجدناهم فی القول فی القرآن .. فإن المحظور فیهما واحد، و هو خوف التقول علی اللّه. بل القول فی القرآن أشد .. فإن القیاس یرجع إلی نظر الناظر، و القول فی القرآن یرجع إلی أن اللّه أراد كذا، أو عنی كذا بكلامه المنزل ... و هذا عظیم الخطر.
و منها: أن یكون علی بال من الناظر و المفسر و المتكلم علیه أن ما یقوله تقصید فیه للمتكلم. و القرآن كلام اللّه، فهو یقول بلسان بیانه: هذا مراد اللّه من هذا الكلام. فلیتثبت أن یسأله اللّه تعالی: من أین قلت عنی هذا؟ فلا یصح له ذلك إلا ببیان الشواهد. و إلا .. فمجرد الاحتمال یكفی بأن یقول" یحتمل أن یكون المعنی كذا كذا"، بناء علی صحة تلك الاحتمالات فی صلب العلم. و إلا .. فالاحتمالات التی لا ترجع إلی أصل غیر معتبرة. فعلی كل تقدیر لا بدّ فی كل قول یجزم به أو یحمّل من شاهد یشهد لأصله، و إلا .. كان باطلا، و دخل صاحبه تحت أهل الرأی المذموم" «1».
و الآن .. و قد وصلنا إلی نهایة القول فی التفسیر بالرأی، فبوسعنا أن نعلم الحقائق التالیة:
______________________________
(1) الموافقات، 3/ 423، 424.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 161

أولا: علی المفسر بالرأی أن یفعل ما یأتی:

(أ) مطابقة التفسیر للمفسّر مطابقة تامة، بحیث لا یقع له نقص من معناه و مقاصده، و لا زیادة علیه بما لیس له به تعلق وثیق.
(ب) حمل الكلام علی ما یتعین (أو یترجح علی أقل تقدیر) أنه المعنی المراد منه. حقیقیّا كان ذلك المعنی أو مجازیّا.
(ج) مراعاة سیاق الكلام (سباقا و لحاقا)، بحیث تتآخی و تترابط أجزاؤه كافة، و یأخذ أوله بحجزة آخره. و فی ذلك .. لا بدّ من تجلیة المناسبات بین الآیات، بل بین السور كذلك.
(د) تجلیة سبب النزول، و عقد الصلة الوثیقة بینه و بین المنزل (علی التفصیل الذی وضحه الزركشی فی مسألة البدء به أو بالمناسبة).
(ه) تحقیق القول أولا فی بیان كل ما یتعلق بمفردات النظم الكریم، ثم الإتیان بعد ذلك علی كل ما تحتاج إلیه التراكیب من العلوم المختلفة ذات العلاقة الوثیقة بالنص، ثم الاستنباط فی خاتمة المطاف علی قوانین اللغة و الشرع و العقل «1».

ثانیا: ما یجب علی المفسر بالرأی اجتنابه:

(أ) التهجم علی تفسیر القرآن من غیر أخذ الأهبة له بكافة ما یلزمه من الصفات و العلوم التی یجب توفرها فی المفسر.
______________________________
(1) الدخیل، لأستاذنا العلامة إبراهیم خلیفة، ص 351، 352.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 162
(ب) الخوض فی بیان ما استأثر اللّه بعلمه «1».
(ج) السیر علی وفق الهوی و مجرد الاستحسان من غیر برهان. و فی ذلك .. علیه أن یكون متجردا لطلب الحق، براء من العصبیة لعقیدة أو نحلة أو مذهب یعلم أن النص لا یوافقه (بحیث لا یستكره النص استكراها علی شی‌ء من ذلك).
(د) القطع بأن مراد اللّه من النص كذا من غیر دلیل یستوجب مثل هذا القطع.
(ه) ادعاء التّكرر فی القرآن، أو أن لفظا آخر یمكن أن یقوم مقام اللفظ المذكور فی النص «2».
______________________________
(1) لا یتعارض هذا مع ما ذكرناه سابقا من أن الراسخین فی العلم یعلمون تأویل المتشابه (علی ما ذهب إلیه المحققون من. هل الفقه بالقرآن)؛ إذ المراد هنا من عدم الخوض فیما استأثر اللّه بعلمه ألّا یتزیّد أحد فی تفسیر القرآن فی الأمور الغیبیة إلا بالقدر الذی بینه الخبر الصحیح.
(2) الدخیل، ص 352، 353.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 163

(10) الشاطبی و التفسیر العلمی للقرآن‌

من المعلوم لدی أهل الفقه بالقرآن أن المفسر إن لم یظفر بشی‌ء من بیان ما یقصد إلی بیانه فی القرآن و لا فی السنة الثابتة، و لا فی الصالح للحجیة من أقوال الصحابة أو التابعین .. اجتهد الرأی بعد تحصیل العلوم اللازمة لاجتهاده، متوخّیا فی ذلك المنطق اللغوی، بأن یقتصر علی الظهر من المعنی الأصلی للتركیب مع بیانه و إیضاحه. هذا هو الأصل. أو یستنبط معانی أخری من وراء الظاهر تقتضیها دلالة اللفظ أو المقام و لا یجافیها الاستعمال اللغوی، و لا مقصد القرآن.
و تلك هی مستتبعات التراكیب علی ما سبق بیانه.
أما أن یجلب مسائل علمیة من علوم كونیة أو إنسانیة حدیثة، لها مناسبة بمقصد الآیة (إما علی أن بعضها یومئ إلیه معنی الآیة و لو بتلویح ما، و إما علی وجه التوفیق بین المعنی القرآنی و بین مسائل تلك العلوم)؛ فإن العلماء فی ذلك رأیین:
فمنهم من یری بأن من الحسن التوفیق بین هذه العلوم الحدیثة و آلاتها و بین المعانی القرآنیة. قال ابن رشد الحفید فی كتابه" فصل المقال":" أجمع المسلمون علی أن لیس یجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها علی ظاهرها، و لا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأویل. و السبب فی ورود الشرع بظاهر و باطن هو اختلاف
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 164
نظر الناس، و تباین قرائحهم فی التصدیق" .. و تخلّص إلی القول بأن بین العلوم الشرعیة و الفلسفیة اتصالا" «1».
و إلی مثل ذلك ذهب قطب الدین الشیرازی فی" شرح حكمة الإشراق".
و هذا الغزالی ذكر فی" الإحیاء" قول ابن مسعود:" من أراد علم الأولین و الآخرین؛ فلیتدبر القرآن" .. ثم قال:" و بالجملة .. فالعلوم كلها داخلة فی أفعال اللّه عزّ و جلّ و صفاته، و فی القرآن شرح ذاته و أفعاله و صفاته، و هذه العلوم لا نهایة لها، و فی القرآن إشارة إلی مجامعها" «2».
و فی كتابه" جواهر القرآن" ذكر أن جمیع العلوم مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة اللّه تعالی و هو بحر الأفعال، و قد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له «3»، ثم ذكر من أفعال اللّه تعالی: الشفاء و المرض كما قال حكایة عن إبراهیم: وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ یَشْفِینِ [سورة الشعراء: 80]. قال:" و هذا الفعل الواحد لا یعرفه إلا من عرف الطب بكماله إذ لا معنی للطب إلا معرفة المرض بكماله و علاماته، و معرفة الشفاء و أسبابه" .. ثم قال:" و لا یعرف كمال معنی قوله: یا أَیُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِیمِ (6) الَّذِی خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِی أَیِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ
______________________________
(1) ابن رشد، فصل المقال.
(2) الإحیاء، 1/ 289.
(3) جواهر القرآن، 32، 33.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 165
[سورة الانفطار: 6- 8]، إلا من عرف تشریح الأعضاء من الإنسان ظاهرا و باطنا و عددها و أنواعها و حكمتها و منافعها .. إلخ".
و قال فی الإحیاء:" بل كل ما أشكل فهمه علی النّظّار (علماء المعقول) و اختلف فیه الخلائق فی النظریات و المعقولات ففی القرآن إلیه رموز و دلالات علیه یختص أهل الفهم بدركها" «1».
و تبع الإمام الغزالیّ الإمام الرازی و ابن أبی الفضل المرستی (الذی نقل السیوطی رأیه فی كتابه" الإتقان" و أیده).
أما أبو إسحاق الشاطبی؛ فقد ذهب إلی منع ذلك اللون من التفسیر العلمی للقرآن .. ففی الفصل الثالث من المسألة الرابعة قال:" لا یصح فی مسلك الفهم و الإفهام إلا ما یكون عامّا لجمیع العرب. فلا یتكلف فیه فوق ما یقدرون علیه". و فی المسألة الرابعة من النوع الثانی قال:" ما تقرر من أمیة الشریعة و أنها جاریة علی مذاهب أهلها- و هم العرب- ینبنی علیه قواعد، منها: أن كثیرا من الناس تجاوزوا فی الدعوی علی القرآن الحدّ، فأضافوا إلیه كل علم یذكر للمتقدمین أو المتأخرین من علوم الطبیعیات و التعالیم و المنطق و علم الحروف و أشباهها. و هذا إذا عرضناه علی ما تقدم؛ لم یصح .. فإن السلف الصالح كانوا أعلم بالقرآن و بعلومه و ما أودع فیه، و لم یبلغنا أن أحدا منهم تكلم فی شی‌ء من هذا المدّعی سوی ما تقدم و ما ثبت فیه من أحكام التكالیف و أحكام الآخرة.
نعم .. تضمن علوما من جنس علوم العرب و ما هو علی معهودهم، مما یتعجب
______________________________
(1) الإحیاء، 1/ 289.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 166
منه أولو الألباب، و لا تبلغه إدراكات العقول الراجحة" .. و هذا مبنی علی ما أسسه من كون القرآن لما كان خطابا للأمیین- و هم العرب- فإنما یعتمد فی مسلك فهمه و إفهامه علی مقدرتهم و طاقتهم، و أن الشریعة أمیة.
هذا ما ذكره .. رأیا و استدلالا.
ثم شرع بعد هذا فی ذكر الأدلة التی استند إلیها المجوزون، فذكر منها قوله تعالی: وَ نَزَّلْنا عَلَیْكَ الْكِتابَ تِبْیاناً لِكُلِّ شَیْ‌ءٍ [سورة النحل: 89]، و قوله تعالی: ما فَرَّطْنا فِی الْكِتابِ مِنْ شَیْ‌ءٍ [سورة الأنعام: 38]، و نحو ذلك، و استدلالهم بفواتح السور- و هی لم تعهد عند العرب- و بما نقل عن الناس فیها، و ربما حكی من ذلك عن علی بن أبی طالب و غیره أشیاء «1».
و بعد ذلك طفق- رحمه اللّه- ینقض هذه الأدلة؛ فقال:" فأما الآیات؛ فالمراد بها عند المفسرین ما یتعلق بحال التكلیف و التعبد، أو المراد بالكتاب فی قوله: ما فَرَّطْنا فِی الْكِتابِ مِنْ شَیْ‌ءٍ اللوح المحفوظ، و لم یذكروا فیها ما یقتضی تضمنه لجمیع العلوم النقلیة و العقلیة.
و أما فواتح السور؛ فقد تكلم الناس فیها بما یقتضی أن للعرب بها عهدا، كعدد الجمّل الذی تعرفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السیر، أو هی من المتشابهات التی لا یعلم تأویلها إلا اللّه .. و غیر ذلك. و أما تفسیرها بما لا عهد به؛ فلا یكون، و لم یدّعه أحد ممن تقدم .. فلا دلیل فیها علی ما ادعوا. و ما
______________________________
(1) الموافقات، 2/ 79، 80.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 167
ینقل عن علی بن أبی طالب أو غیره فی هذا لا یثبت. فلیس بجائز أن یضاف إلی القرآن ما لا یقتضیه، كما أنه لا یصح أن ینكر منه ما یقتضیه، و یجب الاقتصار فی الاستعانة علی فهمه علی كل ما یضاف علمه إلی العرب خاصة، فبه یوصل إلی علم ما أودع من الأحكام الشرعیة. فمن طلبه بغیر ما هو أداة له؛ ضل عن فهمه، و تقوّل علی اللّه و رسوله فیه" «1».
و قد تعقب صاحب" التحریر و التنویر" العلامة ابن عاشور هذا المسلك من الشاطبی فنقده بقوله:
" و هو أساس واه لستة وجوه:
الأول: أن ما نبه علیه یقتضی أن القرآن لم یقصد منه انتقال العرب من حال إلی حال. و هذا باطل .. قال تعالی: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَیْبِ نُوحِیها إِلَیْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [سورة هود: 49].
الثانی: أن مقاصد القرآن راجعة إلی عموم الدعوة، و هو معجزة باقیة ..
فلا بد أن یكون فیه ما یصلح أن یتناوله أفهام من یأتی من الناس فی عصور انتشار العلوم فی الأمة.
الثالث: أن السلف قالوا إن القرآن لا تنقضی عجائبه .. یعنون معانیه. و لو كان كما قال الشاطبی؛ لانقضت عجائبه بانحصار أنواع معانیه.
الرابع: أن من تمام إعجازه أن یتضمن من المعانی مع إیجاز لفظه ما لم تف به الأسفار المتكاثرة.
______________________________
(1) الموافقات، 20/ 81، 82.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 168
الخامس: أن مقدار أفهام المخاطبین به ابتداء لا یقتضی إلّا أن یكون المعنی الأصلی مفهوما لهم. فأما ما زاد علی المعانی الأساسیة؛ فقد تهیأ لفهمه أقوام، و حجب عنه أقوام .. و رب حامل فقه إلی من هو أفقه منه.
السادس: أن عدم تكلم السلف علیها إن كان فیما لیس راجعا إلی مقاصده فمن ساعد علیه. و إن كان فیما یرجع إلیها؛ فلا نسلم وقوفهم فیها عند ظواهر الآیات، بل قد بینوا أو فصلوا و فرعوا .. فی علوم عنوا بها، و لا یمنعنا ذلك أن نقفّی علی آثارهم فی علوم أخری راجعة لخدمة المقاصد القرآنیة" «1».
و المختار لدی كتب هذه السطور جواز هذا اللون من التفسیر، لكن لا بإطلاق .. بل بشرطین ذكرهما العلامة ابن عاشور و غیره .. قال:
" و كل ما كان من الحقیقة فی علم من العلوم، و كانت الآیة لها اعتلاق بذلك؛ فالحقیقة العلمیة مرادة بمقدار ما بلغت إلیه أفهام البشر، و بمقدار ما ستبلغ إلیه. و شرطه ألا یخرج عما یصلح له اللفظ عربیة، و لا یبعد عن الظاهر إلا بدلیل، و لا یكون تكلفا بینا، و لا خروجا عن المعنی الأصلی .. حتی لا یكون فی ذلك كتفاسیر الباطنیة".
______________________________
(1) التحریر و التنویر، 1/ 44، 45.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 169

خاتمة و خلاصة

بعد هذا التطواف بین جنبات كتاب الشاطبی نستطیع أن نخرج بالنتائج الآتیة:
1- أكّد الشاطبی علی عربیة القرآن كله. لذا فإنه یجب أن یفهم- لمن رام فهمه- علی معهود العرب فی الخطاب.
2- أكد الشاطبی كذلك علی دلالتی اللغة العربیة: الأصلیة، و الثانویة التی هی تابعة للأصلیة .. موضحا اختصاص العربیة بتلك الدلالة. و قام برد الشبهات الواردة خلال ذلك.
3- تحدث الشاطبی عن أهمیة معرفة سبب النزول، و بین أنها لازمة لمن أراد علم القرآن.
4- أبدع الشاطبی حین تحدث عن معرفة الظاهر و الباطن من معانی القرآن، موضحا أن الباطن من المعانی- المنضبط بأصول اللغة و الشرع- هو الغایة من معرفة القرآن و فهمه و تفسیره. كما فرق بین التأویل الباطنی الفاسد و التفسیر الإشاری.
5- تحدث الشاطبی كذلك عن العلوم المضافة للقرآن، و ذكر أنها أربعة أقسام. و هو كلام لا نعلم أحدا قبله قال مثله أو قریبا منه .. فلله درّه!.
6- كما تحدث عن المكی و المدنی، و أنه یجب فهم المدنی علی المكی.
7- أما حدیثه عن المحكم و المتشابه؛ فقد خالفناه فی أمور جانبه فیها الصواب و ما علیه جلّ المحققین، مع اتفاقنا معه فی أمور أخری.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 170
8- كما فرق- ذلك التفریق الهام- بین معنی النسخ عند الأوائل و توسعهم فیه و بین ما اصطلح علیه علماء الأصول و القرآن فی ذلك .. موضحا الخلط الواقع بین الأمرین، و مبینا كذلك أن النسخ لا یكون فی الكلیات وقوعا، فما كانت الكلیات لتنسخ و هی أساس الجزئیات.
9- كما أكد الشاطبی علی أن القرآن أتی جامعا للأحكام بطریقة كلیة إجمالیة. أما الأحكام المفصلة؛ فهی قلیلة فی القرآن.
10- كما قرر الشاطبی أن القرآن فیه بیان كل شی‌ء، و لو بنوعه أو بجنسه. و استدل علی ذلك.
11- كما تحدث عن وقوع الحكایة فی القرآن، مفرقا بین ما نبه القرآن علی كذبه منها، و ما لا. أما الأول؛ فمعلوم. و أما الثانی؛ فسكوت القرآن عنه إقرار له. و مثّل لكلا النوعین.
12- كما نبه الشاطبی علی أهمیة إبراز التناسب بین بعض القرآن و بعض.
13- كما تحدث عن التفسیر بالرأی حدیثا رائقا، مبینا أن الرأی المنضبط بقواعد اللغة و أصول الشرع لا یمكن إهمال مثله. و قام بالاستدلال علی ذلك بكلام نفیس. و أن عكس ذلك هو الرأی المذموم الذی حذر منه العلماء.
14- كما تزعم الاتجاه الرافض للتفسیر العلمی للقرآن الكریم.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 171

ثبت المراجع‌

1- الإتقان فی علوم القرآن، للسیوطی، ط. الحلبی.
2- الإحكام فی أصول الأحكام، للآمدی، المكتب الإسلامی.
3- الإحسان فی علوم القرآن د. إبراهیم خلیفة.
4- الأصیل و الدخیل فی تفسیر القرآن و تأویله، د. عبد الغفور مصطفی.
5- بلاغة القرآن، للخضر حسین. دمشق.
6- البرهان فی علوم القرآن، للزركشی، ط. الحلبی.
7- البحر المحیط، للزركشی، ط الكویت.
8- التحریر و التنویر، الطاهر بن عاشور، ط. تونس.
9- التفسیر الكبیر، للفخر الرازی، ط. عبد الرحمن محمد.
10- تفسیر المنار، رشید رضا، ط. المنار.
11- الجامع لأحكام القرآن، للقرطبی، ط. دار الكتب المصریة.
12- حاشیة البنّانی علی جمع الجوامع، ط. الحلبی.
13- دراسات فی الفكر الإسلامی، د. فتحی الدرینی، ط. دار قتیبة- بیروت.
14- دلائل الإعجاز، لعبد القاهر الجرجانی، ط. الخانجی.
15- رسالة المحكم و المتشابه، د. إبراهیم خلیفة، مخطوط.
16- الرسالة للشافعی، تحقیق أحمد شاكر، ط. التراث.
17- سبل الاستنباط، د. محمود توفیق سعد، ط. دار الطباعة المحمدیة.
18- شرح المحلّی علی جمع الجوامع، ط. الحلبی.
19- صحیح مسلم بشرح النووی، المطبعة المصریة.
20- فتح الباری بشرح صحیح البخاری، لابن حجر، ط. السلفیة.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 172
21- الفوز الكبیر فی أصول التفسیر، للدهلوی، ط. دار البشائر الإسلامیة- بیروت.
22- القاموس المحیط، ط. بولاق.
23- لسان العرب، لابن منظور، ط. دار صادر.
24- المدخل إلی كتابی عبد القاهر، د. محمد محمد أبو موسی، ط. وهبة.
25- المستصفی، لأبی حامد الغزالی، ط. بولاق.
26- المعالم الجدیدة للأصول، محمد باقر الصدر، دار التعارف- لبنان.
27- مناهل العرفان، محمد عبد العظیم الزرقانی، ط. عیسی الحلبی.
28- منة المنان فی علوم القرآن، د. إبراهیم خلیفة.
29- معالم السنن، للخطابی، ط. بیروت.
30- الموافقات، للشاطبی، تعلیق الشیخ عبد اللّه دراز، ط. المعرفة.
31- مقدمة فی التعریف بعلم أصول الفقه و الفقه، د. محمد سعاد جلال.
32- مقاصد الشریعة عند الشاطبی، د. أحمد الریسونی.
33- مقدمة فتاوی الشاطبی، د. محمد أبو الأجفان.
34- مقتضی الحال بین البلاغة القدیمة و النقد الحدیث، د. إبراهیم الخولی، مخطوط.
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 173

الفهرس‌

شیخنا الأستاذ الدكتور محمد سالم أبو عاصی 5
مقدمة 11
ترجمة أبی إسحاق الشاطبی 16
الأصل الأول فیما یعوّل علیه من اللغة فی علوم القرآن 30 (1) عربیة القرآن 34
(2) اتباع معهود العرب فی فهم الخطاب 38
(3) أنواع معانی العربیة و مراتبها 51
(4) مناسبات النزول 57
(5) معرفة الظاهر و الباطن من معانی القرآن 73
- الشاطبی یستنكر المنازع البعیدة عن مدلول لغة العرب و مقاصد الشرع 82
- تفاسیر مشكلة، مترددة بین الباطن الصحیح و الفاسد 86
- الفرق بین التأویل الباطنی الفاسد و التفسیر الإشاری 90
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 174
الأصل الثانی فیما یعوّل علیه من الشرع فی علوم القرآن 94
(1) العلوم المضافة للقرآن 94
(2) المكی و المدنی 102
(3) المحكم و المتشابه 104
(4) الإحكام و النسخ 124
(5) بیان القرآن لما تحته من الأحكام 133
(6) القرآن فیه بیان كل شی‌ء و لو بنوعه أو بجنسه 143
(7) وقوع الحكایات فی القرآن الكریم 145
(8) التناسب بین بعض القرآن و بعض 151
(9) التفسیر بالرأی 156
(10) الشاطبی و التفسیر العلمی 163
خاتمة و خلاصة 169
ثبت المراجع 171
الفهرس 173
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 175
من اصداراتنا* أستاذ السائرین الإمام الأكبر أ. د. عبد الحلیم محمود
" الحارث بن أسد المحاسبی" شیخ الأزهر
* عقیدة المسلمین و العقائد الباطلة أ. د. محمد عبد المنعم القیعی
* قانون الفكر الإسلامی أ. د. محمد عبد المنعم القیعی
* العرف و العادة فی رأی الفقهاء أ. د. أحمد فهمی أبو سنة
* قاعدتان فقهیتان أ. د. أحمد فهمی أبو سنة
* موقف السلف من المتشابهات أ. د. عبد الفضیل القوصی
* متشابه القرآن أ. د. إبراهیم الخوئی
* التعریض فی القرآن الكریم أ. د. إبراهیم الخوئی
* بحثاب حول سور القرآن أ. د. إبراهیم خلیفة
* مقالتان فی التأویل أ. د. محمد سالم أبو عاصی
* أسباب النزول أ. د. محمد سالم أبو عاصی
* شرح الحكم العطائیة العارف باللّه الشیخ زروق
* متن الحكم العطائیة ابن عطاء اللّه السكندری
علوم القرآن عند الشاطبی، ص: 176
رقم الإیداع بدار الكتب المصریة
16709/ 2005

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.